الصراعات الداخلية الأميركية وتأثيراتها على المنطقة

من يتابع الشأن الأميركي بدقة يجد أن الرئيس دونالد ترامب قد اصطدم مع مختلف المؤسسات الأميركية منذ توليه السلطة وربما قبل ذلك أيضا فقد فتح جبهة ضد الإستخبارات وضد الإعلام وضد الطبقة النويويوركية التقليدية وضد الحزب الديمقراطي وحتى ضد حزبه الجمهوري نفسه.

ما يهم في هذا الصراع أن مجمله يدور حول علاقة ترامب بروسيا والتدخل الروسي في الإنتخابات الأميركية والذي بات مؤكدا ولم يعد خافيا وهذا ما أدى إلى إستقالة أو إقالة الكثيرين من دائرة حكم ترامب.

بعض المحللين الأميركيين يذهب أبعد من ذلك ويصف ترامب بأنه غورباتشوف أميركا. فكما زرعت أميركا غورباتشوف في روسيا لتدميرها زرعت روسيا ترامب داخل أميركا لتدميرها أو على الأقل لتيسير المصالح الروسية. لكن أميركا ليست مثل روسيا فهي دولة مؤسسات عكس روسيا التي كانت الكلمة للقائد الأوحد ولذلك إستطاع القائد الأوحد غورباتشوف تفكيك روسيا. وهذا ما يفسر لنا لماذا يصطدم ترامب مع المؤسسات الأميركية ويفسر عدم مقدرة ترامب التامة على تنفيذ كل الأجندات.

اليوم هناك صراع نفوذ كبير في منطقة الشرق الأوسط وقد ازداد النفوذ الروسي وتغول وتوغل في عهد ترامب الذي تحاول المؤسسات الأميركية كبح جماحه فيما يتعلق بالروس ولذلك يلجأ ترامب إلى جعل نفسه معاديا للمخططات الروسية ظاهريا بينما يدعمها على أرض الواقع ويقوم بعمل فقاعة إعلامية كل فترة أو حتى مسرحيات تخدع الرأي العام حين قصف مطار الشعيرات السوري بالإتفاق مع روسيا التي أخلت المطار فورا ولذلك لم تكن هناك خسائر حقيقية ولم يكن الأمر إلا خدمة لجميع الأطراف ظهر معها ترامب أمام الرأي العام الأميركي والعالمي أنه رجل قوي ومعاد لمخططات روسيا ولن يسمح باستخدام الكيماوي ضد المدنيين بينما في الحقيقة لم يتوقف استخدام الكيماوي منذ ذلك الحين.

في إحدى مقالات الواشنطن بوست يرى الكاتب سونر جاكبتاي أن ترامب يفضل التحالف الإستراتيجي مع تركيا على العلاقة الأميركية مع الأكراد حتى لو أدى ذلك إلى نسف المشروع الكردي برمته لكن ضباط البنتاغون يفكرون عكس ذلك تماما وهم من يديرون المشاريع العسكرية الأميركية في المنطقة. ولذلك صرح ترامب في وقت سابق بأن الضباط المتواجدين على الأرض هم من سيتصرفون مع المستجدات الحاصلة في سوريا حتى دون الرجوع إليه وهنا لم يرد ترامب ان يصطدم مع المؤسسة العسكرية كما إصطدم مع المؤسسات الأخرى.

لكن بالمقابل لن يكون كامل الأمر بيد هؤلاء الضباط فهناك وزارة للخارجية ومؤسسات أخرى يستطيع ترامب تمرير مخططاته عبرها. ولو فهمنا هذه النقطة فهمنا التناقضات الموجودة على الأرض والتي يصعب تفكيك شيفرتها حتى الآن حتى من قبل ساسة كبار في المنطقة. فعلى سبيل المثال تدعي أميركا أن أهم أولوية لها هي تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة. لكن مع دراسة الواقع نجد أن الأمر مختلف تماما. فتسهيل تسليم كركوك للإيرانيين من قبل أميركا ثم تمددهم في المناطق الإستراتيجية بالقرب من الحدود السورية كمنطقة شنكال يجعلنا نفهم هذا الصراع الداخلي الأميركي خاصة انه تزامن مع قطع الدعم عن المعارضة في التنف والبادية وتسهيل مرور الميليشيات الإيرانية في البادية لتحقيق القوس الشيعي الممتد من إيران حتى دمشق وبيروت. وللعلم فإن قرار قطع الدعم عن معارضة التنف جاء من ترامب شخصيا وأدى ذلك إلى التمدد الإيراني مباشرة وهو شيء مكشوف لا يحتاج ذكاء كبيرا لسبر أغواره وفي ذلك يقول دينس روس المساعد الأسبق للرئيس باراك أوباما بأن ترامب يبيع الكلام فقط. فالنفوذ الإيراني يتمدد في سوريا واليمن. وقال في مقال نشره معهد واسنطن لدراسات الشرق الأدنى بأنه خلال تواجده في إسرائيل اشتكى الإسرائيليون من سياسات ترامب وقالوا بالحرف الواحد إن ترامب باع سوريا لروسيا وإن إيران تتمدد على حدودها ولذلك سيتحركون بشكل أحادي.

ترامب متحالف مع الروس بينما المؤسسات الأميركية ضد الروس لأن هناك بعدا تاريخيا إستراتيجيا لهذه المسألة. ويتماشى ترامب ظاهريا مع هذه الجبهة لكنه يحقق ما يريد أو جزءا منه على أرض الواقع وهو في الآخر تاجر يفكر كيف يوسع قاعدته الشعبية في أميركا بالمال حيث يجد في صراعات العالم فرصة لجمع المال وليس فرصة لتقوية النفوذ الأميركي الإستراتيجي حول العالم ولذلك ينظر إلى التمدد الإيراني في المنطقة بأنه فرصة لإبتزاز دول الخليج كما يرى في تهديدات كوريا الشمالية فرصة لإبتزاز اليابان وكوريا الجنوبية لجمع المزيد من الأموال وروسيا تساعده في هذا المجال سواء في جنوب شرق آسيا أو منطقة الشرق الأوسط.

في الآخر هو تحالف بين رجال المال في روسيا وأميركا على حساب المنظومة القديمة للحكم في العالم وقد بدأت هذه المنظومة تتفكك حتى في أوروبا نفسها حيث بدأ اليمين المتطرف بالصعود في مختلف الدول وبدأ يؤثر على سياسات هذه الدول ولكي نفهم مدى ترابط هذه الكتلة الجديدة حول العالم علينا أن نرى كيف أن حركات اليمين هذه كلها تمجد بوتين وترامب وتسعى أول ما تسعى إلى فتح قنوات مع إيران والنظام السوري وهذا ما فعلته مارين لوبان زعيمة اليمين في فرنسا حين كانت تبدي إعجابها بترامب وبوتين وزارت الشيعة في لبنان ودعت لفتح قنوات حوار مع النظام السوري وهو ما فعله اليمين الشعبوي في ألمانيا حيث زار وفد منه النظام السوري مؤخرا.

هذا البروز لقوى وشخصيات وأفكار جديدة في العالم تحمل فكر اليمينية الشعبوية وتتركز في يد رجال أعمال كبار ومؤسسات تجارية ضخمة تدفع رويدا رويدا إلى كسر طوق مفهوم الدولة القديم وقيم المجتمعات وهذه من إحدى نتائج العولمة وخصخصة قطاعات الدولة وهذا ما أثر على المؤسسات القيمية حول العالم مثل مجلس الأمن والأمم المتحدة والمنظمات الدولية التي بات يتحكم فيها طبقة رجال الأعمال وتجار الحروب الدوليين على حساب القيم التي اكتسبتها المجتمعات بعد صراعات الحرب العالمية الثانية.

إذا فهمنا ما سبق فهمنا لماذا تبدو السياسة الأميركية غامضة ومتناقضة وهذا ما حدى ببعض المحللين الغربيين إلى إطلاق تسمية الغموض البناء لفهم هذه السياسات الجديدة لكنه حقيقة ليس غموضا بناء وهو مصطلح قاصر فما يحدث هو نتيجة صراعات الاجنحة داخل أميركا ما بين ترامب وجبهته وما بين المؤسسات الأميركية الكلاسيكية كما أسلفنا.

ما يهمنا أكثر هو مدى تأثير هذه الصراعات على منطقتنا التي تحولت أساسا إلى رماد بسبب تناقضات المصالح الدولية فإذا اتجهنا نحو المناطق الكردية والتي تعتبر من أهم مناطق النفوذ في المنطقة نجد أن صراعات البيت الداخلي الأميركي قد ألقت بظلالها عليها فجبهة ترامب تركت عفرين لمصيرها إرضاء لروسيا حليفها الأول وإرضاء لتركيا حليفها الثاني. وهنا لا بد من المرور على نقطة مهمة فكما يعلم الجميع فإن ترامب شخص متهور في تصريحاته ولا يقبل أن يتطاول عليه أحد كما هو الحال في ملاسناته القاسية مع رئيس كوريا الشمالية لكنه سكت حتى الآن عن كل الإهانات التي وجهها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأميركا بما فيها حديثه عن الصفعة العثمانية لأميركا وهو ما يدل أن ترامب منسجم مع التحالف الروسي التركي ولذلك لم يحرك ساكنا تجاه عفرين بينما ظل الضباط في البنتاغون يصرخون بضرورة فعل شيء من أجل عفرين.

صراعات البيت الداخلي الأميركي ألقت بظلالها أيضا على منظومة الحكم الكردية في سوريا حيث أصبحت لدينا أجنحة موالية لروسيا والنظام السوري وإيران وضمنا موالية لجناح ترامب وأجنحة أخرى موالية للإستخبارات الأميركية وضباط البنتاغون وضباط قوات التحالف المتواجدين على الأرض وتعتبر منطقة شرق الفرات تحت سيطرة هؤلاء الضباط ولهم حلفاء أقوياء تحت أجنحتهم مثل شاهين جيلو الذي بدأ إسمه يتردد في البنتاغون والكونغرس كحليف معتمد بينما يعتبر صالح مسلم المقيم في أوروبا ورقة محروقة لدى الإستخبارات الأميركية ولذلك سعوا إلى إرسال رسالة قوية له حين سلموه إلى براغ. أما لماذا لا تحبذ بعض الجهات صالح مسلم فلذلك أسباب كثيرة من أهمها أنهم يفضلون ان يتعاملوا مع نوعين من البشر شرق الفرات فإما أن يكونوا برغماتيين يفضلون المصلحة السياسية على المصلحة الحزبية أو يكونوا فاسدين وهؤلاء يسهل السيطرة عليهم.

صالح مسلم لا يمثل النوعين فهو ليس فاسدا والكل يشهد له بذلك. فقد ضحى بإبنه شهيدا وبقية أولاده يشكون الفاقة وله بيت بسيط في كوباني وأوضاعه المادية متواضعة مقارنة بمئات المسؤولين الذين أتخمت جيوبهم من صفقات الفساد في المناطق الكردية. أما من الناحية البرغماتية فصالح مسلم ليس برغماتيا بل مؤدلجا لأبعد الحدود ومخلصا جدا لإيديولوجيته الحزبية وهذه نقطة أخرى يخشى منها الطرف النافذ في أميركا والغرب. فصالح مسلم لم يقدم نفسه يوما كقائد لجناح سوري إسمه الـ "ب ي د" كما أرادت أميركا ان تروج عبر العالم لكنه لم يكف في كل جولاته ومحاضراته في أوروبا عن الحديث عن فلسفة أوجلان والتي كانت من أهم محاور حديثه دائما. ولذلك فهو لم يخرج من قوقعته الحزبية اليسارية رغم أن اليسارية الثورية هي أخطر في الغرب من الحركات الجهادية الإسلامية بل إن الاستخبارات الغربية سعت دائما إلى دعم الحركات الجهادية في العالم الإسلامي لتكون حائط صد ضد تمدد أفكار اليسار كما فعل الغرب في أفغانستان عبر دعم القاعدة ضد السوفييت وكما فعل الإنكليز حين دعموا حركة الإخوان ثم ما فعله السادات بإيعاز أميركي حين صنع الجماعة الإسلامية في مصر ضد اليسار المصري وكما فعلت أميركا حين سمحت بتمدد الفكر الوهابي عبر السعودية في الجمهوريات التي استقلت عن الإتحاد السوفيتي أو التي كانت تنازع الإستقلال. وإذا كان الكرد يعتقدون بأنهم بحربهم للجماعات الإسلامية سيحظون بثقة الغرب المطلقة فهم واهمون لأن الغرب لا يريد إنهاء وجود هذه الحركات بل يسعى لأن تكون مفاتيح هذه الجماعات بيديها بحيث تخرجهم حيثما تشاء وتخفتهم وقتما تشاء حسب ما تقتضي المصلحة.

نستطيع ان نفهم شكلا آخر من الصراع بين الإيديولوجية والبرغماتية في المظاهرات الكردية في أوروبا حيث نرى بيانا واضحا وصريحا يصدر من حزب الإتحاد الديمقراطي بعدم رفع الأعلام والصور المحظورة في ألمانيا وهذه برغماتية سياسة جيدة ويتم الإتفاق على ذلك الأساس وتمضي المظاهرة على نفس الإتفاق ثم فجأة وفي إحدى الزاويا نجد آلاف الصور والأعلام المحظورة يتم توزيعها فينخر الهيجان والحماس الثوري الايديولوجي في جسد الشباب البريء فيسارع إلى حمل تلك الرايات دون أن يسأل نفسه من يقف وراء ذلك وما فائدة ذلك ثم يحدث الإصطدام مع قوى الأمن فتحدث الإعتقالات وتتوقف المظاهرة والنتيجة القادمة تكون صيتا سيئا في الإعلام الأوروبي وتناقصا في عدد الذاهبين إلى المظاهرات القادمة ثم شرخا وصراعا داخل البيت الكردي الهش أساسا.

في المحصلة فإن الصراعات والتناقضات والأفكار باتت أكثر تعقيدا في العالم وتلقي بظلالها على اقل التفاصيل حول الأرض سواء كانت قرى بائسة في سوريا أو منظمات كبرى كالأمم المتحدة أو أحزاب حول العالم أو أي طفل صغير كان يلعب في ساحة قريته فتناثرت جثته فجأة في الأنحاء.