الحروب السرية التي دمرت الأوطان

الحروب في العالم العربي قائمة منذ زمن طويل ولم تتوقف يوما ما. وإذا ما كان العرب قد خسروا حروبهم العلنية فإن حروبهم السرية قد سلمت مجتمعاتهم إلى حالة مركبة هي مزيج من الهزيمة والهلع والاستكانة واليأس وانتظار ما هو أسوأ.

كان التحذير من الغزو الأجنبي الوسيلة التي وجدتها أنظمة وطنية ناجعة من أجل تفسير اضطرارها إلى مصادرة الحريات والعبث بحياة المواطنين في ظل قوانين الطوارئ.

كان هناك كيان شبحي اسمه \"الطابور الخامس\" يمكن أن يُلحق المرء به بكل بساطة إذا ما فكر بطريقته الخاصة أو انتمى إلى جماعة تنظر إلى العالم بطريقة مختلفة. حينها يكون جاسوسا أو عميلا لجهة أجنبية.

من الصعب أن يفهم المرء حقيقة ما جرى عبر أكثر من خمسين سنة من الزمن المثقل بالشعارات والأناشيد الوطنية التي كانت توحي بأن الوطن يعيش في حالة انذار بسبب تربص الأعداء به. تم تكميم الأفواه من أجل أن لا يعلو صوت على صوت المعركة.

لقد طحنت ماكنات الأنظمة السياسية عظام الآلاف من الشباب وأهدرت كرامة آلاف آخرين في المعتقلات سيئة السمعة لسنوات طويلة لا لشيء إلا لأنهم يفكرون بطريقة لا تعجب السلطات الحاكمة.

هل يُعقل أن يُحرم الإنسان من حقه في الحياة لأنه يُفكر بطريقة خاصة؟

كان ذلك السؤال يرافق مثل ظل كئيب لكل الحروب التي فرضتها تلك الأنظمة على شعوبها من غير أي شعور بأن الزمن لن يكون رحيما.

وأخيرا خسرت الأنظمة حروبها السرية أيضا، لكن بعد أن حطمت شعوبها.

تُرى ما الذي ربحه الناصريون والبعثيون وجماعة الكتاب الأخضر من الحملات التي شُنت عبر خمسة عقود على مواطنين أبرياء لم يكن ذنبهم سوى أنهم لا يشاركون أنظمة الحكم طريقتها في التفكير؟

لقد دمرت تلك الحملات عن طريق الإرهاب المنظم الحياة الفكرية برمتها. أنتجت شعوبا تخشى أن يقودها أي تصرف حر إلى ما تحمد عقباه. شعوب خائفة تتلفت وهي في حالة ذعر. شعوب لا تعرف ما الذي ينفع الوطن وما الذي يضره. فالقوانين تتغير بطريقة سرية.

ما يعيشه العالم العربي من فراغ سياسي اليوم هو مُنتج طبيعي لتلك الحروب.

كانت الدول عبارة عن مختبرات تجري فيها الأحزاب الحاكمة تجاربها. ولم تكن الشعوب سوى فئران تلك التجارب. وهو ما كان الزعيم الليبي الراحل صريحا في التعبير عنه في أيامه الأخيرة.

لقد انتهكت الانظمة السياسية مفهوم الوطنية الخالصة واستبدلته بمفهوم الوطنية النفعية (الانتهازية) الذي هو من اختراعها. صار معيار الوطنية يستند إلى مدى خضوع المرء للشروط التي يفرضها النظام الحاكم. وهي شروط لا تستثني الحياة الشخصية من تعسف رقابتها وقسوتها.

كان على المرء أن يكون منافقا لكي يتم الاعتراف بوجوده مواطنا صالحا. فكانت تلك المواطنة هبة وليست حقا. ذلك لأن المرء حين يختار المضي في طريق السلامة الجاهز انما يقرر عن وعي التخلي عن حريته في الاختيار.

لذلك فإن ما حدث لاحقا وبالضبط حين خسرت الأنظمة كل حروبها وذهبت إلى العدم كشف عن حجم الكارثة التي أحدثتها تلك الحروب السرية.

لقد وقعت الغزوات في وقت لم يكن النظام قد جهز شيئا لمواجهتها (العراق وليبيا) وعامت البلاد في بحر من الغزاة الذين لا يعرف أحد مَن أين قدموا في حين كان النظام يلهي شعبه بالحديث عن مندسين مرتزقة (سوريا).

غير أن الثابت في الأمر أن الشعوب التي تخلت عن تلك الأنظمة في اللحظات العصيبة كانت قد فقدت في أوقات سابقة البوصلة التي ترشدها إلى مواقع أوطانها. لقد تلاشى الشعور الوطني تدريجيا وكانت الحياة السياسية مستعبدة بقوة الصوت الواحد الذي هو صوت النظام وكان أشبه بالسوط.

وكما صار واضحا فإن بناء الأوطان ليس مشروعا سياسيا لذلك تعجز شعوب حُرمت من التمتع بحريتها في التفكير عن رد الاعتبار إلى فكرة الوطن باعتبارها طريقا يقود إلى المواطنة.

لقد غاب الوطن يوم فقدت الملايين حقها في المواطنة الصحيحة. وها نحن اليوم ندفع ثمن تلك المعادلة الظالمة.