موظفو الدولة يهاجرون إلى القطاع الخاص في تونس

مشاريع خاصة من أجل دخول موازية

تفتح السيدة مريم الهمامي مكتبها بوزارة الشؤون الاجتماعية الساعة الثامنة صباحا ولا تغادره إلا بعد ثماني ساعات عمل تتخللها ساعة راحة تتناول فيها وجبة خفيفة مع كوب شاي ياتي بهما حاجب الإدارة.

والسيدة ذات الخمسين عاما هي موظفة برتبة متصرف في الشؤون الإدارية تشرف نظريا على ملف مساعدة العائلات المعوزة والإحاطة بها ماديا واجتماعيا وإنسانيا.

لكنها عمليا تقضي كامل ساعات الدوام في تصفح الجرائد وتصفح الإنترنت لزيارة المواقع المهتمة بشؤون المرأة وفي الدردشة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن استحوذ رئيسها المباشر على الملف وهمشها لتتحول هي نفسها إلى حالة "معوزة".

والهمامي واحدة من بين نحو 2100 موظف بمؤسسات القطاع العام الذين تقدموا بمطالب لمغادرة الوظيفة العامة باتجاه القطاع الخاص من خلال إطلاق مشاريع خاصة بهم.

وتأتي مغادرتها الاختيارية في إطار خطة الحكومة التي تهدف إلى تسريح نحو 120 ألف موظف مع نهاية العام 2020، منهم من سيحال على التقاعد المبكر الإجباري مع بعض الامتيازات المالية ومنهم من يترك له مجال الاختيار بين مواصلة العمل أو التقاعد الاختياري لإطلاق مشروع خاص على أن يعود للوظيفة في حال فشل المشروع.

ويبدو أن التقاعد الاختياري وجد فيه المئات من الموظفين التونسيين فرصة للهروب من العمل الإداري الذي يكاد يكون بطالة مقنعة للبحث عن مهن جديدة تنقذهم في نفس الوقت من الرتابة الإدارية القاسية ومن حالة التفقير التي تعرضوا لها خلال السنوات الماضية.

وتقول الهمامي إنها تتقاضى راتبا شهريا قدره حوالي 650 دولارا، فيما يتقاضى زوجها، وهو موظف ايضا راتبا في حدود الف دولار.

وقبل ايام قال توفيق الراجحي الوزير المكلف بالإصلاحات الكبرى أن 68 بالمئة من جملة 6400 موظف تقدموا بملفات طالبين المغادرة الاختيارية بهدف انشاء مشاريع خاصة تمت الموافقة على 5600 ملف.

وتسعى الحكومة التونسية إلى تشجيع الموظفين على التقاعد المبكر في إطار برنامج الإصلاحات الكبرى وفي مقدمتها التخفيض في كتلة أجور الموظفين المرتفعة.

ووفق بيانات حكومية ارتفع عدد موظفي القطاع العام 650 ألف موظف خلال السنوات الأخيرة نتيجة التعيينات العشوائية التي اجريت خلال فترة حكم حركة النهضة الاسلامية.

وتشهد موازنة الدولة عجزا بلغ 6 بالمئة نتيجة كتلة الأجور التي تناهز 15 من الناتج المحلي الإجمالي وتسعى الحكومة إلى خفضه العام 2020 إلى 12 بالمئة.

وتقول الهمامي معلقة على تدني أداء القطاع العام "الإدارة خربت، غالبية الموظفين وخاصة الذين تم تعيينهم خلال السنوات الأخيرة لا شغل لهم" مشيرة الى أن "العمل الوظيفي تحول من خدمة وطنية سامية للدولة إلى نوع من البطالة المقنعة".

ويردد التونسيون جملة تقول "عقلية رزق البيكيك" للتعبير عن مدى الاستخفاف بالمؤسسات الإدارية وبكل ما هو ملك من أملاك القطاع العام والدولة.

ويقر المسؤولون الحكوميون بأن ملف تسريح الموظفين والتقاعد المبكر سواء في جانبه الإجباري أو في جانبه الاختياري، يهدف أساسا إلى تقليص الانفاق على الاجور وتمكين الموظفين المغادرين من تحسين مداخيلهم من خلال مشاريع منتجة خاصة بهم.

غير أن خالد عاشور الأخصائي في علم الاستراتيجيات يرى أن "عملية تسريح الموظفين إن لم تكن مدروسة بناء على تركيز إدارة حديثة وناجعة متحررة من البيروقراطية يمكن أن تقود إلى إفراغ مؤسسات القطاع العام من كفاءات متمرسة خبرت العمل الإداري".

ويشدد عاشور متحدثا لمراسل ميدل ايست أونلاين على أن "الموافقة على مغادرة أي موظف وخاصة السامين منهم لا يجب أن تكون بصفة آلية وإنما يجب أن تشمل الإدارة العميقة أي الفئة البيروقراطية التي تهرأت ليفسح المجال أمام الكفاءات".

وتقول مريم الهمامي إن العديد من زميلاتها وزملائها في مختلف الوزارات تقدموا بملفات وطلبوا المغادرة الاختيارية ومنهم من شرع في التخطيط والدراسة لإطلاق مشاريع بعد أن يئسوا من أي آفاق للترقية المهنية التي من شأنها أن تحسن رواتبهم.

وتخطط الهمامي لفتح محل بيع المنسوجات في منطقة البحيرة الراقية الواقعة في الضاحية الشمالية لتونس العاصمة وهي تتوقع نجاح المشروع نظرا لحركية القطاع.

وتبدو الهمامي واثقة من نجاح مشروعها وهي تقول "إن التونسيات والتونسيين وخاصة الأجيال الجديدة تعتني كثيرا بالهندام والمظهر الخارجي وتنفق نحو 30 بالمئة من الدخل الشهري على الملابس الجاهزة وجميع المنسوجات بما فيها اللباس التقليدي".