أصحاب الشهادات الجامعية في تونس يلوذون بمهن لا تليق بهم

آلاف الطلبة المعطلين عن العمل يتظاهرون طلبا للتشغيل

دفعت ظاهرة بطالة أصحاب الشهادات الجامعية العليا في تونس بالعشرات من الأطباء والمهندسين والمجازين في مختلف الاختصاصات إلى ممارسة مهن لا تليق بمستواهم العلمي في ظل فشل سوق الشغل في استيعابهم.

ولا تخفي عائلات النخبة المعطلة عن العمل حالة الإحباط التي تسللت إليها خلال السنوات الأخيرة بعد أن كانت تعلق آمالها على أن يمارس أبناؤها مهنا تساهم في ارتقائهم الاجتماعي وترفع من مكانتهم الاعتبارية في المجتمع.

وتقول تلك العائلات إنها تحملت الكثير من المتاعب والنفقات طيلة فترة الدراسة بمراحلها الثلاث: الابتدائية والثانوية والجامعية، على أمل أن أبناءها أطباء ومهندسين ومحامين وقضاة وكوادر عليا بالإدارة لا باعة خضروات وتجار صغار.

ويبلغ عدد العاطلين من أصحاب الشهادات الجامعية العليا نحو 340 ألف وهم يمثلون نحو 30 بالمئة من إجمالي عدد العاطلين البالغ عددهم نحو 970 ألف وفق إحصائيات "اتحاد المعطلين عن العمل" الذي يرأسه سالم العياري.

ويطالب الاتحاد الحكومة بمباشرة خطة تنقذ الآلاف من الكفاءات من البطالة ومن ممارسة مهن وضيعة لتستفيد البلاد من مؤهلاتهم العلمية متعددة الاختصاصات.

ولا يتردد الاتحاد في التشديد على أن استفحال ظاهرة بطالة الأطباء والمهندسين ومختلف المتحصلين على إجازات عليا تعد ضربة في صميم التعليم وفي سوق الشغل.

ووفق الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر مركزية نقابية في البلاد) ينحدر 73 بالمئة من هؤلاء العاطلين من فئات اجتماعية متواضعة موزعة على مختلف الجهات الداخلية للبلاد.

وهذا الأمر يعمق الشعور بالحيف لدى شباب تلك الجهات لينشر الإحباط في أوساط تلاميذ المعاهد وطلبة الجامعات الذين باتوا يتوجسون من أن يؤول مصيرهم إلى مصير النخبة المعطلة.

وفي مسعى إلى التخفيف من الظاهرة الخطيرة وفرت الحكومة عبر آليات مختلفة قروضا صغيرة تتراوح ما بين 5 و20 ألف دينار ( ألفي دولار ـ وثمانية آلاف دولار) لمساعدة خريجي مؤسسات التعليم العالي على إطلاق مشاريع صغرى.

ويقول صالح الرياحي وهو حائز على شهادة الأستاذية في الحضارة العربية، إنه فتح محلا لبيع الخضراوات بنهج ابن خلدون الواقع في حي التضامن الشعبي شمال العاصمة.

وعلى الرغم من أنه مقتنع بأن مهنته لا تناسب مستواه العلمي غير أنه يعتبر نفسه محظوظا نسبيا بالمقارنة مع بقية زملائه العاطلين.

وينحدر الأستاذ بائع الخضروات من محافظة سليانة الواقعة في الشمال الغربي حيث ترتفع نسبة البطالة في عدد من القرى والبلدات لتصل إلى نحو 60 بالمئة.

وساعدته ثقافته الجامعية على ربط علاقات متينة مع زبائنه من الحي الشعبي حتى أنهم باتوا أوفياء له لا يتبضعون إلا منه كشكل من أشكال التعاطف.

وفي مدينة أريانة شمال العاصمة فتح نزار بولحية وهو خريج كلية الطب بتونس، اختصاص طب عام محلا لبيع التجهيزات الإلكترونية بعد خمس سنوات من الانتظار على أمل توظيفه في أحد المستشفيات الحكومية.

ويعد الطبيب الذي تحول تحت قسوة الأوضاع إلى تاجر صغير عينة للعشرات من الأطباء الذين حرمت تونس من مؤهلاتهم على الرغم من أن قطاع الصحة العمومية يشكو نقصا فادحا في الأطباء وخاصة في الجهات الداخلية.

ويقول نزار بصوت خافت لا يخلو من الألم والحسرة "درست الطب وكنت أحلم بمداواة المرضى وأساعد عائلتي المتواضعة لكني وجدت نفسي بائعا للتجهيزات الإلكترونية".

وتابع "إن تحويل وجهة خريجي الجامعات من كفاءات متعددة الاختصاصات إلى باعة ومعطلين تعد من أخطر الجرائم التي تتحمل مسؤوليتها الدولة لأنها تضرب في الصميم قيمة الشهادات الجامعية العليا ومن ثمة نظام التعليم بكامله".

وفي الشارع الرابط بين مدينة العوينة ومدينة سكرة الواقعتان في الضاحية الشمالية للعاصمة فتحت ألفة الجلاصي وهي حاملة لشهادة جامعية اختصاص علم الكيمياء محلا لبيع العطورات ومواد التجميل لتنقذ نفسها من عالم البطالة.

وتنحدر الجلاصي من عائلة متوسطة الحال تقطن في مدينة القيروان واضطرت إلى النزوح إلى العاصمة بعد أن يئست من توظيفها كأستاذة بأحد المعاهد الثانوية.

وفي تعليقها على ظاهرة ممارسة أصحاب الشهادات الجامعية العليا لمهن لا تتناسب مع مستواهم تقول الجلاصي باللهجة التونسية "عاش يتمنى في عنبة مات جابولو عنقود" أي أفنى عمره متمنيا حبة من العنب ولما توفي قدموا إليه عنقودا كاملا من العنب.

ويبدو أن الظاهرة التي رصد منها مراسل ميدل ايست أونلاين ثلاث عينات تستبطن وعيا من العاطلين بضرورة التأقلم مع الأزمة الهيكلية التي تشهدها البلاد إذ ترى النخبة من الكفاءات المعطلة عن العمل أن المستوى الجامعي لا يمنع من ممارسة أي مهنة أخرى قد لا تليق بالمكانة الاجتماعية ولا تستجيب للطموحات.

وكثيرا ما ينظر التونسيون لهذه الفئة بعين التقدير حيث يرون فيهم رمزا على مواجهة تحديات الأوضاع الصعبة ونوعا من محاولة الانتصار على قسوة ظاهرة البطالة.