نهاية زمن تيلرسون

تحول "السر"، الذي كان يعرفه الجميع، إلى واقع أخيرا. إقالة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون كان بمثابة الخبر الصحيح الذي اتفق كل من هو قريب من البيت الأبيض على نفيه، لكن دون جدوى.

لأول مرة نشهد وزير خارجية "يساري" في واشنطن. المعنى هو أنه كان ينوي منذ البداية الوقوف على يسار البيت الأبيض. لكن يبدو أن تيلرسون ذهب باتجاه اليسار أبعد من اللازم.

ربما لا توجد قضية اتفق عليها تيلرسون مع الرئيس دونالد ترامب. من خطط استعراض القوة تجاه كوريا الشمالية، وقضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية، والتصعيد في مواجهة إيران، ورؤية الإدارة الأميركية لبريكست والانفاق الدفاعي الأوروبي، وصولا إلى الأزمة الخليجية والعلاقة مع قطر. العزف كان متضاربا والنغمة كانت نشازا.

مشكلة تيلرسون أنه دخل إلى أروقة الإدارة الأميركية خاسرا، عندما اعتقد أن بإمكانه أن يقدم نفسه باعتباره حجر الزاوية لضبط هذا الرئيس المتهور. لكي تكون قادرا على فعل ذلك، عليك أن تتحلى بسنوات طويلة من الخبرة في العمل الدبلوماسي، وأن تحظى بتأييد أعمدة رئيسية في البيت الأبيض.

لم يكن لدى تيلرسون لا هذا ولا ذاك. التقارير الأميركية تتحدث عن خلافات تحولت إلى صراعات بين تيلرسون ومستشار الأمن القومي هاربرت ماكماستر، خصوصا في وضع استراتيجية التعامل مع إيران. ثمة تقارب كبير، يصل إلى حد التطابق، بين ما يعتقد تيلرسون أنه الصواب، وما يرى ترامب أنه خطأ.

مشكلة الرجلين أنهما يختلفان في كل قناعاتهما تقريبا، لكنهما يتشابهان في شيء واحد فقط؛ وهو انعدام الخبرة السياسية. السياسة الخارجية للولايات المتحدة كانت تدار على قاعدة تحددها قناعات الفائز في صراع قوى يومي بين وزارة الخارجية والبيت الأبيض.

قد يمكن النظر إلى مايك بومبيو، رئيس "السي آيه ايه" السابق ووزير الخارجية البديل، باعتباره "ترامب صغيرا"، لا يختلف عن الرئيس ترامب سوى في صلاحيات كل منهما وقوة تأثيرهما.

اليوم صارت المعادلة أبسط كثيرا. "الترامبية" في واشنطن أصبحت مطلقة، في مواجهة "بوتينية" في موسكو لا تقف أمامها أي عوائق.

النظام العالمي الجديد، الذي يشكله زعماء الصين وكوريا الشمالية وروسيا والولايات المتحدة، لم يعد مكانا مناسبا لأشخاص يؤمنون بـ"عقيدة أوباما" في إدارة السياسة الخارجية. أينما كان تيلرسون يذهب، لم يكن سهلا بالنسبة إليه العثور على مسؤولين مازالوا يفكرون بهذه الطريقة، إلا في أوروبا.

أوروبا هي الضحية الأولى لقرار ترامب. ربما يمكن القول الآن أن تيلرسون كان يمثل، بشكل ما، عامل توازن لاستمرار العلاقات الأوروبية مع الولايات المتحدة في حدها الأدنى. إقالة تيلرسون ستنهي هذه المرحلة، وستبدأ "عصر الأزمة" بين واشنطن وبروكسل.

أحد أهم أسس هذه الأزمة الاتفاق النووي مع إيران. غياب التجانس غير المسبوق في اختيار مساعديه، دفع ترامب ثمنه عندما وجد نفسه فجأة أمام ملفات حاسمة تمثل بالنسبة إليه كرئيس لحظة الحقيقة بكل تجلياتها. الصدام المتكرر بين الجانبين حول الاتفاق النووي كان تعبيرا عن محاولة تيلرسون اليائسة لخلق توازن دقيق بين رغبة عارمة للحفاظ على الاتفاق بين المؤسسات التقليدية، ورغبة مضادة بنفس القوة في البيت الأبيض لتعديله. تيلرسون كان متمسكا بقناعة مفادها أن الضغط الزائد لتعديل الاتفاق قد يتسبب في انهياره.

هذه الرؤية بالضبط هي ما تعول عليها إيران في دفع الولايات المتحدة إلى حماية اتفاق لا توافق عليه نفس الولايات المتحدة، عبر الاستثمار في الخلافات الداخلية على مصير الاتفاق وبنوده.

تيلرسون كان قوة مضادة لتنفيذ استراتيجية مواجهة النفوذ الإيراني وفرض قيود على برنامج إيران للصواريخ الباليستية. كان هناك إصرار في الخارجية على حصر النظر إلى إيران في امتلاك سلاح نووي الجميع يعلم أنها لن تستخدمه ضد أحد. عدم قدرة تيلرسون ومساعديه على إدراك أن السلاح النووي الحقيقي الذي تمتلكه إيران هو نفوذها الطائفي المدمر في المنطقة أخرج ترامب ورجاله عن صبرهم.

قرار إقالة تيلرسون يصنع من إيران، مع أوروبا، خاسرا ضمن تعقيدات لعبة الأمم، التي تزداد كل يوم تعقيدا.

الخاسر الآخر هو قطر. الاتفاق الأميركي العام على أن الأزمة الخليجية "تجذب التركيز بعيدا عن ملفات أكثر أهمية" لا يعني الاتفاق على كل شيء آخر. بالعكس. البيت الأبيض ووزارة الخارجية كانا يخوضان حربا باردة لتقويض كل منهما مصداقية الآخر أمام حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. لكن ما بات واقعا اليوم هو أن استبدال تيلرسون بمايك بومبيو في وزارة الخارجية يزيد من انكشاف قطر، خصوصا قبيل زيارة سيقوم بها ولي العهد السعودي إلى واشنطن في وقت لاحق هذا الشهر.

الصين أيضا ستفتقد حماس تيلرسون ضد السياسة الحمائية التي ينتهجها ترامب في اتفاقات التجارة مع الصينيين والأوروبيين والعرب وغيرهم. انفتاح تيلرسون على الصين، بحكم علاقاته القديمة منذ أن كان رئيسا تنفيذيا لشركة "إكسون موبيل"، لم يعد له مكان اليوم في الإدارة بعد رحيله، ومن قبله مستشار ترامب الاقتصادي غاري كوهين.

ربما سيفتقد المسؤولون في أوروبا وإيران وقطر والصين والمكسيك تيلرسون كثيرا، لكن نظرائهم في إسرائيل وروسيا وكوريا الشمالية سيحتفلون في المقابل.

وزير الخارجية السابق كان حائط الصد أمام خطط الإسراع في نقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس. تيلرسون كان يعتقد أن خطوة كهذه ستمنح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شيكا على بياض، وستخرج الولايات المتحدة من لعبة الوساطة "التاريخية" ضمن عملية السلام. يكفي ما فعله قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل! في النهاية تبين أن تيلرسون كان في هذه القضية أشبه بمن يتحدث إلى المرآة، في غرفة لا يوجد بها أحد سواه.

في روسيا الوضع يكاد يكون متطابقا. رغم العلاقات القديمة التي تجمع بوتين وتيلرسون، كانت سياساته تمنح مؤيدي ترامب شعورا بأن قناعات وزير خارجية الولايات المتحدة تعكس وجهات نظر باريس ولندن وبرلين، أكثر مما تمثل رؤى واشنطن في المواجهة "السهلة والمترددة" مع موسكو. المقاربة التصعيدية التي تبناها وزير الخارجية السابق أظهرت وكأنه حليف للمحقق مولر، أكثر من كونه حليفا لترامب!

الأمر يتكرر عند النظر إلى استراتيجية ترامب لمواجهة كوريا الشمالية لكن بطريقة معكوسة. هذه المرة لا مجال بالنسبة لتيلرسون لسياسة "حافة الهاوية" التي قطع فيها ترامب شوطا كبيرا أوصله إلى إجبار كيم جونغ أون على الجلوس معه لوضع شروط حسن السير والسلوك أمام بيونغ يانغ في مرحلة ما بعد تحولها إلى قوة نووية. وفقا لمسؤول أميركي "دونالد أراد أن ينهي المعوقات التي كانت تقف في وجهه قبل لقاء كيم."

وضعا في الاعتبار مفاجآته الهيستيرية، ربما يكون إخراج تيلرسون أفضل قرار اتخذه ترامب طوال ما يزيد عن العام في الحكم بالنسبة لكثيرين، وربما يكون الأسوأ بالنسبة لآخرين. المؤكد هو أن الإدارة الأميركية دخلت مرحلة أكثر تجانسا وأقل نضجا، وأن النظام العالمي الجديد سيجري في مسار تقف "الترامبية" على ضفته المقابلة لضفة "البوتينية".