أبوالغيط ضد التمدد الإقليمي لمصر

ليس هناك خطأ في العنوان، فهو يلخص رأي السفير أحمد أبوالغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية، عقب حوار خاص دار بيننا ردا على مقال الأسبوع الماضي "حان وقت التمدد الإقليمي لمصر".

لم أكن أتوقع أن يحظى المقال بصدى لدى كثير من المهتمين والأصدقاء، ومع أن غالبيتهم اتفقوا معي في الأمنية، لكن السيد أبوالغيط كان له رأي مختلف، أقدره وأحترمه، وبناه على رؤية وثقها في كتابه الثري "شهادتي"، تحذر من الاندفاع المصري الخارجي.

عندما هاتفني صباح الخميس الماضي وتحدث معي بشأن المقال، انتابني شعور عكس القناعة التي أؤمن بها منذ فترة، وهي علي أن أكتب ما أراه مناسبا للقارئ ولا اهتم بحصد النتائج أو الانشغال بسر الصمت وعدم الاكتراث الذي ينتاب كثير من المسئولين.

وهو شعور جاءني من وحي نصيحة قرأتها منذ فترة للكاتب الأميركي من أصل هندي فريد زكريا رئيس تحرير مجلة نيوزويك السابق، وجهها للعاملين في الإعلام والفن والثقافة، قال فيها "عليكم أن تجتهدوا ولا تنظروا خلفكم وقد يأتي وقت لاكتشافكم".

السيد أحمد أبوالغيط، أراد من حيث لم يقصد، أن يدحض هذه القناعة، ولم يكتف بالمناقشة الهاتفية ومتابعته لمقالاتي، بل دعاني لجلسة في مكتبه صباح الثلاثاء لاستكمال الحديث حول مضمون المقال.

سعدت بالدعوة الكريمة ولبيتها لمعرفة وجهة نظره وفلسفته باستفاضة، لأنه شغل منصب وزير خارجية مصر لنحو سبع سنوات، من 2004- 2011، وهي فترة شهدت انكفاء مصريا كبيرا. بالطبع لا يتحمله أبوالغيط، لكنها كانت سمة مرحلة اتعظ فيها الرئيس حسني مبارك من حكمة "رأس الذئب الطائر".

كنت أتوقع أن يكون الأمين العام أكثر حرصا على التمدد الإقليمي لمصر، لكن يبدو أن خبرته العملية وثقافته العلمية وفرتا له قناعة بعدم التفكير في هذا الدور حاليا، ومع ذلك قلت لن استعجل الأمر، فاللقاء معه مباشرة قد يكشف أبعاد المسألة.

عقب دعوته، دار في ذهني حوار داخلي حول الاستفادة من الجلوس مع أمين عام الجامعة العربية للحصول على حوار صحفي، في وقت هناك الكثير من الأسئلة الملحة والمثيرة التي يمكن طرحها عليه وتستحق الإجابة ممن في مثل موقعه.

في الطريق إلى مقر الجامعة العربية بميدان التحرير، منيت نفسي بالحديث وبدأت أعيد ترتيب الأسئلة عن القمة العربية المقبلة في الرياض، والتعامل مع قطر، وحدود التعاون العربي في مكافحة الإرهاب، وصفقة القرن، والأزمة السورية، والموقف من النفوذ الإيراني، والتمدد التركي، ومصير طلب جنوب السودان في الانضمام للجامعة العربية، وتحت كل نقطة من هذه القضايا يمكن وضع أسئلة عديدة وتفاصيل كثيرة.

استقبلني الرجل بترحاب وكرم كعادته، وهو انطباع يشعر به كل من يلتقيه، وكنت سعدت بلقاء طويل معه منذ حوالي 12 عاما في مكتبه بوزارة الخارجية، وعندما عرضت عليه فكرة الحوار الموسع، بدا متحفظا وفضل أن يكون اللقاء وديا ومقتصرا على فكرة المقال ومنحها حظها من المناقشة، فاحترمت وامتثلت لرغبته.

الاستماع إلى السيد أبوالغيط حول رؤيته للدور الإقليمي لمصر، قضية تستوعب أكثر من مقال وتحتاج إلى تحليل موسع. وفي نقاط ست ألخص للقارئ رؤيته وأحتفظ لنفسي بحق الرد في مقال لاحق، لأنها قضية محورية، يختلط فيها العقل بالعاطفة، والخيال مع المنطق، والطموح بالجموح، والتفكير الإستراتيجي الوطني بالعقل التآمري الخارجي.

أولا: أكد معالي الأمين العام، أنه ضد الاندفاع والتسرع جريا وراء فكرة البحث عن دور، والتجربة أثبتت أن التمدد الإقليمي على مدار التاريخ كان وبالا على مصر، واستشهد بتجارب علي بك الكبير ومحمد علي وجمال عبدالناصر، والتي أشار إليها في كتابه "شهادتي" الذي أهداني نسخة منه وأخرى من كتابه الثاني "شاهد على الحرب والسلام".

في تقديره أن محاولات هؤلاء القادة انتهت بفشل كبير لمشروعاتهم الطموحة في الظهور المصري الخارجي. وقال نعم فكرة المقال براقة، لكن تقف خلفها محاذير يجب الانتباه لها جيدا، كي لا يتم اجهاض المشروع الوطني الراهن والذي بحاجة إلى وقت طويل لاستكماله.

ثانيا: ضرورة الاستمرار في البناء الداخلي بصورة صحيحة ووفقا لرؤية إستراتيجية، تراعي الاستثمار الإيجابي في المواطن والثقافة والتعليم والاقتصاد، وهذا ما يفعله حاليا الرئيس عبدالفتاح السيسي، وهو شخصية تاريخية ويمتلك مشروعا وطنيا طموحا يجب أن يُعطى الفرصة كاملة لتنفيذه وتسليط الأضواء عليه بصورة موضوعية.

ثالثا: الرئيس السيسي حريص على بناء الإنسان المصري، وهذه خطوة جوهرية للتقدم، والتركيز على التعليم وتجديد الخطاب الديني عملية مهمة، حتى لا يتحول رجل المسجد إلى خميني (أية الله خميني في إيران) أو سيستاني (علي السيستاني المرجع الشيعي العراقي)، فقد تضخم دور رجل المسجد في مصر خلال فترتي حكم الرئيس أنور السادات ومبارك، وما يحدث الآن من بناء متكامل يرمي إلى قطع الطريق على المتطرفين مستقبلا.

رابعا: هناك تربص بالمؤسسة العسكرية المصرية، التي تملك جيشا وطنيا قويا ومتماسكا ومسلحا بأحدث المعدات والتكنولوجيا، ما يثير قلق دوائر كثيرة ومحل استهداف من قوى عديدة، وجرت محاولات لتوريطه خارجيا، ولأن قيادته واعية وتعي حجم التربص تم تفويت الفرصة، فالجيش مهمته الأساسية حماية الأمن القومي المصري بكل جوانبه.

خامسا: الدول العربية من الصعوبة أن تصد عن نفسها طموحات قوى إقليمية وعالمية، وهي لا تستطيع أن تنتج طائرة قتال أو دبابة أو فرقاطة، لكن القدرات المصرية بالتعاون مع السعودية والإمارات مثلا، يمكن أن تحقق هذا الهدف.

المشكلة، في تقديره، أن الرؤية العربية للدفاع عن الهوية والإقليم، لا تزال محل خلاف، وهذا أحد أوجه الخلل في التعاون المشترك، فهناك من يرى وجوب أن تحتل إيران أولوية قصوى، ومن يعتقد إسرائيل هي الخطر الرئيسي، ومن يريد أن تكون الحرب على الإرهاب ذات أهمية متقدمة، ودخل الآن الدور التركي ضمن هذه الدوائر بعد اتساع رغبة أنقرة في الانتشار.

سادسا: أي دور مصري فعال يأتي بعد استكمال البناء والتحديث والجاهزية المتكاملة ووفقا لفلسفة واضحة (وهنا نوه لتجربة الصين) ويأخذ في اعتباره طبيعة التوازنات المحيطة به، ويكون مدعوما من الإقليم وليس في تناقض معه، لتجنب تحالف القوى العظمى لضربه، إذا تيقنت أنه يمثل خطرا عليها ويحد من نفوذها ويهدد مصالحها، وهنا تكون الطامة الكبرى.