بوتين وشبح ستالين

هل الرهان على دور لروسيا كقوّة اعتدال على الصعيدين الإقليمي والدولي في محلّه؟ مؤسف ان الرئيس فلاديمير بوتين الذي فاز بولاية رئاسية جديدة لم يستطع لعب الدور، دور القوّة العاقلة، الذي كان مفترضا ببلاده لعبه في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة.

يتطلب مثل هذا الدور الخروج من عقد الماضي والانتماء الى الفضاء الاوروبي بعيدا عن الوهم القائل انّ في استطاعة روسيا استعادة دور القوّة العظمى وموقعها، كما كانت عليه الحال ايّام الاتحاد السوفياتي.

يستهل بوتين ولايته الرئاسية الجديدة في ظلّ ازمة عميقة في العلاقات مع بريطانيا. اخذت هذه الازمة بعدا جديدا بعد انضمام الولايات المتحدة ومعها فرنسا وألمانيا الى المنددين بمحاولة قتل الجاسوس المزدوج سرغي سكريبال بواسطة السمّ في مدينة سالزبري، وهي مدينة تقع غرب إنكلترا.

ذهبت السلطات البريطانية بعيدا في المواجهة مع روسيا بسبب تسميم الجاسوس المزدوج الذي اطلقته موسكو في عملية تبادل للعملاء في العام 2010. وصل الامر بوزير الخارجية بوريس جونسون الى اتهام الرئيس الروسي نفسه بانّه وراء تسميم الجاسوس المزدوج الذي يحمل الجنسية البريطانية. اثار ذلك الكرملين ووزارة الخارجية الروسية من منطلق ان ليس مسموحا المسّ بشخص بوتين الذي يسير على خطى ستالين وان بطريقة اكثر نعومة، هذا اذا استثنينا كيفية تعاطيه مع الشيشان مطلع هذا القرن. اليس ستالين من اطلق شعار "الموت للجواسيس" في اربعينات القرن الماضي؟

بعيدا عن الاخذ والردّ وتبادل روسيا وبريطانيا الاتهامات وابعاد ديبلوماسيين من البلدين من موسكو ولندن، لا تبشّر الولاية الجديدة لبوتين بالخير. لعلّ اكثر ما لا يبشّر بالخير هو اهتمام العالم بتسميم العميل المزدوج في سالزبوري وغض الطرف عمّا يدور في سوريا حيث تقتل الطائرات الروسية يوميا عشرات المدنيين في الغوطة الشرقية التي تقع على مشارف دمشق.

من المستغرب ان لا تلقى الحملة التي تشنّها قوات تابعة للنظام السوري بدعم ايراني وغطاء جوّي روسي أي ردّ فعل دولي. يحدث ذلك على الرغم من وجود قرار لمجلس الامن التابع للأمم المتحدة يحمل الرقم 2401 يدعو الى وقف شامل لاطلاق النار لمدّة شهر في الغوطة. بقي القرار حبرا على ورق. زادت الغارات الروسية على المدنيين عنفا. كلّ المطلوب بقاء بشّار الأسد في دمشق وكأنّ في الإمكان إعادة الحياة الى نظام صار في مزبلة التاريخ منذ فترة طويلة. حصل ذلك في اليوم الذي لم يجد فيه النظام من ردّ على أطفال ومراهقين في درعا كتبوا عبارة "الشعب يريد اسقاط النظام" سوى اقتلاع اظافر هؤلاء. حدث ذلك في مثل هذه الايّام من العام 2011.

كان منتظرا من رئيس لروسيا تولّى مسؤولياته للمرّة الاولى مطلع القرن الواحد والعشرين ان ينقل بلده الى عالم آخر مختلف. نكتشف حاليا، بعدما امضى بوتين ثمانية عشر عاما رئيسا، او رئيسا للوزراء يمتلك كلّ خيوط السلطة، ان الهدف هو إعادة روسيا الى ايّام ستالين. كانت تلك ايّام لا مكان فيها سوى لمنطق واحد هو منطق القوّة.

لم يلجأ بوتين، في معظم الأحيان، الى الوسائل التي اعتمدها ستالين من نوع التصفيات الجماعية والفردية والنفي الى سيبيريا. اختار طريقة أخرى من اجل التخلّص من معارضيه تقوم على عزلهم وتجريدهم من ايّ قدرة على التحرّك. اما رجال الاعمال الذين قاوموه واعترضوا على حصر النشاط المالي بمحيطين به، فكان مصيرهم السجن والنفي. سجن ميخائيل خودوروفسكي ثم اطلق وانتقل الى العيش في سويسرا. اما بوريس بريزوفسكي فقد ذهب الى المنفى ثمّ انتحر في بريطانيا في ظروف غامضة عام 2013.

هناك امثلة كثيرة على حوادث تعطي فكرة عن كيفية تعاطي بوتين مع خصومه. ثمّة ادلة تشير الى تسميم روسي آخر لجأ الى بريطانيا هو الكسندر ليتفيننكو في العام 2003 في احد مطاعم لندن. كان ليتفيننكو عميلا للاستخبارات الروسية لجأ الى بريطانيا، فنال جزاءه.

يكتشف من يتابع مسيرة ببوتين، الضابط السابق في الاستخبارات الروسية الذي عمل ايّام الحرب الباردة في برلين، وجه شبه كبير بينه وبين ستالين. الفارق ان الرئيس الروسي الحالي يلجأ الى وسائل حديثة لتحقيق الهدف ذاته المتمثل في التخلص من الخصم. اذا صحّت الاتهامات البريطانية، تكون روسيا في 2018 هي روسيا 1940 حين ارسل ستالين الى المكسيك مَن يغتال تروتسكي!

ليست السياسة الروسية في سوريا سوى امتداد لسياسة بوتين في الداخل الروسي. لم يتاون الرئيس الروسي في مرحلة معيّنة عن تسوية مدينة مثل غرزوني بالأرض لاخماد ثورة الشيشان في العام 2002، ولكن في كلّ ما له علاقة بروسيا الاوروبية، هناك وسائل واساليب اكثر حضارية تنمّ عن عقل قادر على التكيّف مع المستجدات.

هذا العقل القادر على تكييف نفسه مع المستجدّات هو الذي مكّن روسيا من التدخل في سوريا للمشاركة في الحرب التي يسنّها نظام على شعبه من منطلق مذهبي قبل ايّ شيء آخر. مثل هذا العقل لا يدرك انّه لا يستطيع الانتصار لا في روسيا ولا في سوريا وانّ هناك حدودا للاستفادة من العجز الدولي عن الردّ على المجازر التي ترتكب في سوريا.

يمكن لبوتين ان ينجح في الداخل الروسي. لديه حتّى ما يرد به على بريطانيا حيث تستغلّ رئيسة الوزراء تريزا مي الازمة من اجل تغطية ازمة أخرى على علاقة بانقسام حزبها حيال موضوع الخروج من الاتحاد الاوروبي (بريكست). ما لا بدّ من الاعتراف به ان الشعب الروسي شعب مغلوب على امره تستثيره غرائز معيّنة مرتبطة بالشعور الوطني والانتماء الى امّة عظيمة ذات تاريخ مجيد تعرّضت لظلم. هذه الغرائز التي تستثير الشعب الروسي تجعله قادرا على تحمّل الكثير، بما في ذلك العقوبات الدولية.

ولكن ما هي الأسباب التي يمكن ان تجعل بوتين ينجح في سوريا بالتضامن والتكافل مع ايران... وفي ظلّ تواطؤ دولي؟ لا وجود لاي سبب من هذه الأسباب. هناك غياب كامل لسبب يدعو روسيا الى التدخل في سوريا. لا وجود لهدف روسي يبرّر الوسيلة المعتمدة في التعاطي مع الشعب السوري. اذا كان الهدف من هذا التعاطي انقاذ النظام السوري، لا شيء يمكن ان ينقذ هذا النظام في يوم من الايّام. اذا كان الهدف تغيير طبيعة سوريا واحداث تغيير ديموغرافي في العمق، فان الأرقام كفيلة بالقضاء على مثل هذا الحلم.

مبروك لبوتين ولايته الجديدة. سينجح الى حدّ كبير في إبقاء شبح ستالين مخيّما في الداخل الروسي وخارجه، لكن السؤال الذي سيطرح نفسه يوميا من سيخرج روسيا من مأزقها السوري ومن تلك الطائرات من دون طيّار التي تحلّق بين حين وآخر فوق قاعدة حميميم في اللاذقية؟