علي هلال القحم .. جرح آخر في زماننا

لا أمراء في الشعر سوى الشعر

أشعر بصدمة كبيرة فقد رحل الشاعر اليمني علي هلال القحم صاحب ديوان \"غربة الخبز\" اكتنفه العوز وحاصره الجوع وانتهت حياته المعذبة، بطريقة غامضة لم يحلّ لغزها حتى الآن.

رحل أكثر شعراء هيجانات الشوارع 2011، تعبيراً عن احتداماتها منطوياً على أسراره الكثيرة، وقصته الحافلة بالقهر والمتناقضات. تاركاً أكثر الجروح نزيفاً في وجدان المشهد الشعري اليمني، وأكثرها إيلاماً على الاطلاق.

ولد علي هلال القحم في حبر القائمة جبل مطحن وصاب على حدود بني مسلم \"محافظة ذمار\"، أمه كانت مطلقة ولديها ولدان وبنتان حين تزوجها أبوه. وبعد أن أنجبته بفترة طلقها أبوه بسبب أنها كانت مريضة، فأخذت \"علي\" معها وانتقلت للعيش مع أولادها في مدينة تعز، وكان أبوه يأتي بين الحين والآخر لزيارته.

أبوه كان إمام مسجد في قريته وله وجاهة بين الناس هناك، وقد أنجب من زوجاته الأخريات عشرة من الأولاد، واحد منهم كان برتبة رائد في الجيش، وكان علي شديد التعلق به. وبسببه كان يأتي كل سنة إلى وصاب، وقد توقف عن زيارة وصاب بعد موت أخيه هذا سنة 2006، مع أن له هناك بيتاً وأرضاً وعزوة وناساً.

أبوه مات مبكراً، أما أمه التي كان يتحدث عنها كثيراً فقد ماتت منذ سنوات قليلة، وساهم موتها في ترسيخ عزلته، ولعله انقطع تماماً عن إخوته من أمه الساكنين في تعز بعد موت أمه كما انقطع عن إخوته من أبيه الساكنين في وصاب من قبل.

عبدالرحمن القحم أحد إخوته من أبيه عاد من غربته إلى اليمن قبل شهرين من رحيل علي، وقد ذهب إلى صنعاء للبحث عنه لكنه لم يهتد إليه، كان يريد أن يتعرف عليه، فهو لم يره من قبل، وقد أصابه الحزن لأنه لم يعرف صورة أخيه إلا عندما نشرت أخبار موته.

كان على حسب معلومات سمعناها منه مراراً قد حصل على معدل عال في الثانوية العامة، لكنه لسبب مّا لم يواصل تعليمه، وقد جاء إلى صنعاء سنة 2000 تقريباً واشتغل في ورشة العريقي بشارع تعز، ثم منذ سنة 2002 بدأ محمد حاتم الصلوي \"مثقف ووجيه\" يأخذه معه إلى مقايل الأحزاب السياسية وهي مقايل عادة ما يرتادها خليط من السياسيين والمثقفين والكتاب والصحفيين، ولعله فعل ذلك لما رآه من موهبته الأدبية، وذكائه وتطلعاته الحادة.

سنة 2003 ستكون السنة المفصلية في حياته التي سنعرفها نحن بشكل جيد، فقد ترك العمل في الورشة وبدأ رحلة الحياة في هامش غير مضمون ولا موثوق به أعني التفرغ للأدب ومحاولة كسب لقمة العيش منه. ترك العمل في الورشة وانتقل إلى السكن في لوكندة تقع في تقاطع شارع هايل مع شارع عشرين، على أول خطوة في ذلك المنعطف أمسك العوز بتلابيبه، وفي تلك اللحظة الفارقة بدأ رحلة التشرد والتسكع والوجع المزمن.

بعد فترة تعرف على الشاعر فارع الشيباني الذي خلصه من عذابات الايجار في اللوكندة وأخذه معه إلى جمعية بني شيبة حيث حظي بسكن مجاني لبعض الوقت وصحب شخصاً مثل فارع على قدر من المروءة لا يترك صاحبه ولا يتخلى عنه.

بعد عام 2004 سيتنقل بين العديد من الصحف محرراً في صفحاتها الثقافية، أو متعاوناُ بالقطعة، عمل فترة طويلة في صحيفة \"الوحدوي\" ثم تنقل فيما بعد بين صحف أخرى من بينها الرأي والمستقلة ويمنات.

عرفت الشاعر علي هلال القحم نهاية عام 2006 تقريباً، كان شاباً متوسط الطول نحيفاً، بدت هيئته المتعبة للوهلة الأولى دالة، إما على إهمال من ذلك النوع الذي يتماهى فيه بعض المبدعين الشباب حين لا يأبهون بمظهرهم، وإما على كونهم ينخرطون في أسلوب معيشة إحتجاجي على الواقع الذي يعييشونه.

بعد فترة جمعتنا فيها صباحات وغداءات مشتركة ومقايل متعددة، تبين لي أن حالته مزيج من الحالتين، فهو واحد من الشعراء المتسكعين، بل هو من كبار المتسكعين، من ذلك النوع الذي يلتحم بالأرصفة والازقة والعشوائيات، كما هو شاعر الجوع والخرمة، فهو المولعي العظيم أيضاً على حد تعبير صديقه – كمال شعلان- وفوق ذلك هو على قدر كبير من الابداع الفطري، قراءات قليلة مستعجلة وغير معمقة، ومثقافات مقايلية، وروح تلتهب شعراً صادقاً ينكتب دون تكلف، ويقول الحياة كما يعيشها.

تواترت السنوات وعرفت علي هلال أكثر ودارت بيننا نقاشات كثيرة في مقيل اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بصنعاء، وفي مقيل العابد، وبيت سلطان العزعزي وغيرها من المقايل التي كان يقرأ فيها من ديوانه \"غربة الخبز\" الصادر عام 2005، أو مما كتبه بعد إصدار ذلك الديوان.

لكن علي هلال القحم العاري من أي روافع وظيفية أو أسرية، والعاري إلا من نفسه الوحيدة وجسده النحيف، كان رغم موهبته المميزة قليل الحظ فلم تلتفت الأقلام إلى تجربته، ولم يقم هو بأي جهد يذكر لترويج إبداعه على نحو ما كان يفعل غيره، وظل كعادة معظم أدباء اليمن منذ مطلع التسعينيات يكافح طيلة يومه من أجل لقمة أو علاقية قات، أوما يفي بإيجار غرفة بلا تهوية وبلا حمام.

حين انفجرت هيجانات الشوارع عام 2011، كان القحم في أول المنخرطين فيها، وقد سكن الخيمة قرابة عام ونصف العام.

وعلى كثرة الشعراء الذين انخرطوا في المعمعة الكبرى في تاريخ اليمن - ومنهم من كان يفوق القحم موهبة وحضوراً - إلا أن أحداً منهم لم يعبر عن تلك اللحظة التاريخية بطريقته، فقد أبدع الشاب النحيل أكثر قصائد أيام الساحات شهرة، وتعبيراً عن هيجاناتها، وعما يحدث في معتركاتها من تناقضات، وقام بتعرية اللصوص والانتهازيين والمتفذلكين والسوفسطائيين، والملعوب بهم، وشرّح حالة اللاعبين وأدواتهم داخل تلك الساحات، وكانت أكثر قصائده شهرة وتوهجاً هي \"مذكرات أخي عبدالهادي في الثورة\" تلك التي شخص فيها بوجع وسخرية سوداء، وعبر مصفوفة من الصور المشهدية والتوصيفات القاتلة كل التواءات اللحظة، وانتقم بها من كل من ضحكوا عليه وعلى رفاقه، وسرقوا منهم الصوت والصدى، الطموحات والمنجزات وحتى الفتات اليومي الذي تميزت به ساحات تلك الهيجانات، وكان أغرب ما عرفته الانسانية في تاريخها:

كان أخي عبدالهادي جلاداً ثورياً

وجميعنا كنا في الخيمة والخيبة

أبطالاً لكتاب البؤساء

كنا أبطالاً داخل السيناريو

مات الأبطال به قبل العرض

وكان أخي عبدالهادي قائد كل فتوحات القات

فحاز على أعلى جائزة في رفض الأخطاء

كان أخي عبدالهادي يحمل وعياً عصرياً

من عصر العمال الفلاحين بروسيا البيضاء

كان يحارب خصماً مجهولاً، والمجهول يحارب عبدالهادي

لا يدري عبدالهادي من حارب في صف الثورة

أو من حارب ضد الثوَّار الأعداء

كتب علي هلال القحم \"مذكرات أخي عبدالهادي في الثورة\" في يناير 2012، أي بعد أحد عشر شهراً عاشها في ذلك الخضم الهائج بدءًا من الإندفاع الأول بطموحاته المائرة ودفقاته غير المحسوبة، مروراً بسيول الدماء التي أريقت، والحرب التي طغت صواريخها على شعارات السلمية، وحتى صفقة المبادرة، وسرقة كل ما أراده الشباب، حيث استيقظوا فجأة ليجدوا أنهم كانوا مجرد أدوات، وأن الكنترول كان يديرهم منذ أول يوم بواسطة الآلاف من الـ \"عبدالهادي\"، وأن كل ما كسبوه كان مجرد أشهر من السكن المجاني والقات واللقمة والانترنت – كما قالها هو لي ذات يوم - هكذا بعد أحد عشر شهراً كان على الشاعر الشاب أن يتساءل بفم جاف وبصدمة ثورية كبيرة:

لماذا كانت ألوان العلم الوطني.. ليلٌ وجليدٌ ودماء؟

كيف تخون الألقاب الأسماء؟

كيف يصير الحر لنذلٍ عكازاً؟.. والحرية في مفهوم

المأجور هراء؟

كيف تصير الثورة كلبة ليلٍ؟

والثوَّار جراء

تساؤل لا يخص الشاعر وحده، لكنه كان يرف على كل لسان، وبين جوانح كل شاب شعر بأنه كان مجرد أحبولة لصيد يصطاده غيره، ما فعله القحم أنه كان من أمسك بخيط اللحظة، وقال كل ما كان الآخرون يريدون قوله، وهذا جزء حاسم في نجاح التعبير الشعري عند أي شاعر.

لكن المفارقة أنه في حكومة الوفاق التي تلت هيجانات الشوارع عُين عشرات الـ \"عبدالهادي\" في مناصب رفيعة وبقي القحم في الشارع جائعاً يلتحف السماء، ويأكل الكسرة اليابسة إن توفرت.

ليس لعلي هلال القحم حساب على فيس بوك، ولا أظنه فعل ذلك، وإن فعله ذات يوم فقد أهمله بكل تأكيد ولم ينشر عليه شيئاً يذكر، لكن عدداً من نصوصه الكاملة، وشذرات كثيرة مجتزأة من نصوص أخرى، إلى جانب ومضات قصيرة له تنتشر على صفحات أصدقائه الذين ساكنوه في الساحات، وفي السنوات التي تلت الساحات، أو جاوروه في المقايل وسايروه في الشوارع، وشاركوه الكدمة وحرضة السلتة أو نفر العصيد الرخيص، وهي كلها شذرات تدل على حضور يعبر عما في النفوس، وعن شاعر يلتقط اللحظة بنجاح وله جمهوره الذي يترقب نفثاته ويحتفى بإبداعاته بوصفها نبض الهواجس والمرايا العاكسة لما يعيشونه ويعتقدونه، بعضها هجاء ساخر يجدون فيه تنفيساً عما في نفوسهم تجاه الطغاة والمنفخوخين والمتغطرسين، كما في هذه الومضة المنشورة على صفحة الشاعر أحمد العرامي بتاريخ 12 ديسمبر/كانون الأول 2012:

أنت رجل عظيم

وأنا لا أحب العظام

لأنني لست كلباً

وكما في ومضة أخرى نشرها نزار القاضي على صفحته بتاريخ 26 يناير/كانون الثاني 2017 يقول :

سَقَطَ السّقَطْ

من حولوا فينا الحروف إلى نقط

وبعضها شعور بالضياع ، وإحساس بهراء شيء اسمه الوطن، فلا وطن إلا أنت وأنا نحن البشر كما في شذرة عنوانها \"بطاقة غير شخصية\" منشورة على صفحة اسماعيل الشيباني بتاريخ 18 اكتوبر/تشرين الأول 2017 يقول فيها:

فتّشتُ في الكُتب القديمة

والقواميس الحديثة والمعاجم كُلها

عني ... وعن معنى الوطن

لم أجدني .. لم أجد أحداً

فعرّفتُ الوطن ... :

عن جدّهِ .. عن عمّهِ .. عن خاله ..

عن أُمّهِ .. عن صِهره ..

عن إبنه هذا وعن هذا ..

وذلك .. عن وعن

لا شيء من وطنٍ سِوانا يا رفيقي

فلتكن أنت الوطن.

وبعضها فلسفة وتساؤلات وجودية من وحي اللحظة التاريخية التي عاشها في الساحات كما في شذرة أخرى منشورة على حائط نزار القاضي بتاريخ 24 يناير/كانون الثاني 2017 يقول فيها:

منطقنا عقل اللاعقل

جنونٌ لا يقبلُ ضرباً أو قسمة

الدرب ... يبابٌ وهوانا غيمة

الوقت ... ظلامٌ ورؤانا نجمة

هذا الفارق ما بين الطلقة والكلمة

الطلقةُ تقتل إنساناً

والكلمة ...

تخلِقُ إن شاءت يا أُمي ...

أُمـة.

لقد كان علي هلال القحم أنجح شعراء الساحات في التعبير عن خيباتها، ولقد كانت له ميزة التعبير في لحظة مبكرة عن صدمته لما آلت إليه، وكان جديراً بما فعله أن يحظى بالتفاتات أقوى لو لم يكن معظم ناشطي الساحات الكتاب ممن استمرأوا كتابة المنشورات الفيسبوكية التي لا تكلف جهداً، ولو لم يكن معظم مثقفي الساحات من الشفاهيين والمسيسين الذين لا يجيدون غير التصنيفات وأساليب الاقصاء والاستبعاد.

قد تكون هذه الوقفة الحزينة بين الذكريات والشجن الآن غير كافية للتمعن في تجربة هذا الشاعر الذي غمطته الحياة أكثر حقوقه، ولعل نموذج عبدالهادي ليس الوحيد الذي هجاه القحم، ولعل غمار هيجانات الشوارع 2011 لم يكن وحده سبب نقمته، فثمة نموذج شعري يبدو أنه كان مقيتاً جداً في نظره، وقد تشخصت فيه كل أمراض المجتمع الأدبي اليمني، فراح يعريه في نصه البديع \"كتابة بحروف عارية\" على هذا النحو:

أخبرني يا شيخ الروح

متى ولاك الحرف

رسولاً للريح لندعوك كهذا الوهم

أمير الشعراء؟

أخبرني .. هل الوان الأحبار سواء؟

لا أمراء في الشعر سوى الشعر

فهل كان سلاطين الحزن سواسية كاللاشيء

وكل اللاشيء سواء؟

أخبرني .. هل تتقن فن الاخطاء؟

أتجيد الحزن .. كما يتقن فيك الحزن الداءه؟

أتجيد محاوره المجهول وان تصنع من فعل الأمر

مئات الاسماء؟

أتجيد النقش بريشة جبريل على قبر العنقاء؟

ان تصنع من جوعك وردة

تهديها خبزاً ودواء للفقراء

أتجيد محاكمة الصخر وتفجير الجمر

شعوراً كالماء؟

أن تنحت تمثالاً من ماء في جسد من نار

أن تدرك أن النار المخلوقة من ماء

ليس الماء المخلوق من النار

أتجيد إحالة حرف الهمزة .. خيلاً عربياً فارسه الياء

هل تقدر فيك نعم .. ان تغدو في غيرك لا؟

أن تجعل حرف الضاد طيوراً فيك

تعانق روح الاحياء

أن تجعل صوت العالم يصغي لك

في لغة تنسج من هذا الحرف العاري

للأرض رداءً من ضوء ينسج للحرف رداء

لا امراء في الشعر سوى الشعر

فليست الوان الأحبار سواء

أخبرني يا.....

هل تقدر ان تبعث من صخرة سيزيف

أغاني الخنساء؟

أن تكشف عن أسطورة عشتار

حقيقة ام عذراء

ولماذا كانت اشعار ابي الطيب

تمدح في سيف الدولة كافور؟

رحيل القحم المفاجىء والغامض قبل أيام \" 7 ابريل 2018 \" أحدث صدمة كبيرة في الساحة الأدبية اليمنية، وتوالت الاعترافات الجماعية بالتقصير والاهمال في حق الراحل المظلوم، جلد العشرات من أصدقائة كتاباً ومثقفين وأشخاصاً عاديين ذواتهم على صفحاتهم، فقد أشعرهم رحيله المباغت بالهزيمة والعري، صدمهم الموت بصراحته الفاقعة وتدخلاته القوية، ووضعهم، بل وضعنا جميعاً أمام فضيحة التقصير واللامبالاة التي كانت غالبا ما تتهم القحم بالتسبب فيها.