ايران وروسيا... بعد ضربة سوريا

بعد الضربة الاميركية - الفرنسية - البريطانية التي استهدفت السلاح الكيميائي السوري، في ظل اعتماد روسيا موقف المتفرّج، ثمة ملاحظات لا يمكن تجاهلها. انّها ملاحظات مرتبطة بالوضع السوري ككلّ وموقع ايران وروسيا في هذا البلد الذي بات تحت خمسة احتلالات.

في مقدّم الملاحظات ان كلّ الاستراتيجية الايرانية قائمة على شخص بشّار الأسد، في حين ان لدى الجانب الروسي خيارات أخرى في ضوء الدور الذي لعبه في بناء المؤسسة العسكرية السورية وتغلغله فيها. هناك علاقة تاريخية بين موسكو ودمشق منذ صفقة السلاح الاولى، غير المباشرة، بين البلدين في اواخر خمسينات القرن الماضي وبدء تخرّج كبار الضباط السوريين، خصوصا العلويين منهم، من الاكاديميات العسكرية السوفياتية ثمّ الروسية في مراحل لاحقة.

تتفوق روسيا على ايران بان وجودها في سوريا غير مرتبط بشخص بمقدار ما انّه مرتبط بطائفة ومؤسسة، هي المؤسسة العسكرية. مثل هذا الارتباط الايراني ببشّار الأسد جرّ الى مزيد من الاعتماد لدى رئيس النظام السوري على ميليشيا "حزب الله" اللبنانية التي يتأكد كلّ يوم انّها ليست سوى لواء في "الحرس الثوري" الايراني الذي ارتبط بالاسد الابن به ارتباطا وثيقا، بل عضويا، وذلك منذ ما قبل خلافته والده في الرئاسة رسميا صيف العام 2000 وزيادة الحضور القوي للحزب في الأراضي السورية.

من هذا المنطلق، لن يكون سهلا على القوى التي تسعى الى تحديد مستقبل سوريا في مرحلة ما بعد بشّار الأسد تجاهل الدور الروسي بوجوهه المتعددة، بما في ذلك العلاقة بالكنيسة الانطاكية الارثوذكسية التي مقرّها الأساسي في دمشق. هذا لا يعني ان روسيا في وضع مريح في سوريا، خصوصا انّها تتبع سياسة تقوم على معاداة اهل السنّة في بلد نسبة هؤلاء فيه تزيد على خمسة وسبعين في المئة. اسوأ من ذلك، ان الموقف الروسي يستند أساسا على ان النظام القائم في دمشق "شرعي" في حين انّه لا يمتّ الى الشرعية بصلة لا من قريب ولا من بعيد. انّه نظام طائفي اوّلا وأخيرا يقوم على تحكّم الاجهزة الأمنية برقبة المواطن. وقد تحوّل هذا النظام مع خلافة بشّار لوالده الى نظام مافياوي عائلي اكثر من ايّ شيء آخر. ليست تصفية آصف شوكت، صهر العائلة، بالطريقة التي تمت بها سوى دليل إضافي على ذلك بعد اكتشاف ان الرجل يمتلك علاقات عربية ودولية قد تسمح له بان يكون بديلا من داخل لعائلة لبشّار الأسد.

ما تعنيه المقارنة بين الدورين الروسي والإيراني في سوريا ان الدور الروسي يمكن ان يكون له مستقبل، فيما لا وجود لهذا المستقبل للدور الايراني. هذا عائد الى سبب في غاية البساطة. يتمثّل هذا السبب في انّ الدور الايراني على الصعيد الإقليمي في مرحلة تراجع، فيما لا تزال روسيا قوّة عسكرية لا يمكن تجاهلها على الرغم من كلّ النكسات التي حصلت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع العام 1992 وحتّى في مرحلة سبقت الانهيار. تخلّل تلك المرحلة سقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989. لم يكن ذلك السقوط مجرّد سقوط لجدار، بل كان إيذانا بدخول العالم مرحلة جديدة اسّس لها رونالد ريغان الذي باشر منذ دخوله البيت الأبيض مطلع ثمانينات القرن الماضي التصعيد مع الكرملين وصولا الى وصف الاتحاد السوفياتي بـ"امبراطورية الشرّ" وادخاله في سباق تسلّح، عبر اطلاق مشروع "حرب النجوم". تبيّن وقتذاك ان اقتصاد الاتحاد السوفياتي عاجز حتّى عن التأقلم مع فكرة "حرب النجوم" وانّه ليس في واقع الحال سوى "نمر من ورق"، كما كان الزعيم الصيني ماو تسي تونغ يصف "الامبريالية الاميركية" التي تسعى بلاده منذ وفاته الى الاقتداء بها، وان على طريقتها الخاصة.

تفرض المقارنة بين الوجودين الروسي والإيراني في سوريا الاعتراف بانّ الوجود الروسي يمكن ان يكون له أساس ما، كما قد تكون هناك حاجة أميركية اليه في مرحلة معيّنة في حال صار مطلوبا إيجاد صيغة جديدة تشمل حصول لملمة لكيان تعرّض للتفتيت. تزداد الحاجة الى مثل هذا الوجود الروسي في حال بقي شيء من الجيش السوري يصلح نواة لجيش جديد.

امّا الوجود الايراني، فهو وجود مصطنع قائم على التدمير واحلال الميليشيات المذهبية المستوردة مكان السلطة القمعية القائمة. لن تستطيع ايران تغيير كلّ التركيبة الديموغرافية لسوريا حتّى لو كان تركيزها على تدمير كلّ مدينة كبيرة وتهجير اكبر عدد من السوريين من بلدهم. لن تستطيع ايران ذلك نظرا الى انّ في المنطقة قوى كثيرة ترفض منطقها الذي لا علاقة له بالمنطق.

هناك العراق الذي يسعى كلّ يوم الى الخروج من تحت الهيمنة الايرانية. كان العراق في أساس الانطلاقة الجديدة لإيران بعدما سلمته لها الولايات المتحدة في مثل هذه الايّام من العام 2003. تتراجع ايران حاليا في كلّ مكان بعدما وجدت في شخص وليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان من يقول الأشياء كما هي اخذا في الاعتبار ان المملكة العربية السعودية تمتلك ما يكفي من القوّة كي لا تكون لها ايّ عقدة تجاه نظام إيراني لم يتورّع عن استخدام الإرهاب والترهيب ووضعهما في خدمة سياساته.

تتراجع ايران في العراق. ستكون الانتخابات العراقية في الثاني عشر من ايّار – مايو المقبل اختبارا حقيقيا لمدى رغبة العراقيين في التحرّر من الاستعمار الايراني. لكنّ المكان الذي سيكون فيه الامتحان الحقيقي لإيران، فهو سوريا حيث ربطت مصيرها بمصير رجل لم يستطع في يوم من الايّام استيعاب خطورة ان يكون اسير "الحرس الثوري" وادواته.

ستسعى ايران الى التشبث بالورقة السورية. لا يسمح الوضع الداخلي للنظام بغير ذلك. يعلم "الحرس الثوري" وقادته ان الخروج من سوريا سيعني الخروج من طهران وان الهزيمة السورية ستكون لها انعكاساتها في الداخل الايراني حيث لم يعد في استطاعة النظام مواجهة حال التذمر السائدة. هناك تذمّر على كل صعيد، خصوصا بعد انكشاف النظام الذي صرف أموال ايران في سوريا ولبنان وغزّة واليمن ولم يستطع ان يستجيب لاي مطلب شعبي في بلد يعيش اكثر من نصف سكانه تحت خطّ الفقر.

لن تكون روسيا مستاءة من الخروج الايراني من سوريا. ستجد طريقة للتأقلم مع مرحلة ما بعد الضربة الاميركية. ستقبض ثمن الاستثمار في مؤسسة الجيش السوري وفي الطائفة العلوية. لم يكن بشّار الأسد في يوم من الايّام رجلا لا يستغنى عنه بالنسبة الى فلاديمير بوتين... في حين شكّل الضمانة الوحيدة لإيران. تعرف موسكو هذه الايّام ان هناك كلاما جديا في العالم عن بديل من بشّار الأسد في مرحلة انتقالية تبدو سوريا مقبلة عليها.

ستدفع ايران، عاجلا ام آجلا، ثمن رهانها على شخص ظنّ انّه يستطيع القاء دروس في الوطنية والتنظير على العرب الآخرين في شأن كيفية مواجهة إسرائيل. انتهى الامر ببشّار ان قبل بضمّ إسرائيل لهضبة الجولان المحتلة التي رفض والده استعادتها كي تبقى حال اللاحرب واللاسلم سائدة في المنطقة ووسيلة ابتزاز للعرب الآخرين. لم يستطع بشّار حتّى ممارسة لعبة الابتزاز التي اتقن والده أصولها والتي كانت ايران من بين الدول التي شملتها.