فرجينيا دانيلسون تضع ظاهرة أم كلثوم في سياقها التاريخي

من فتاة ريفية إلى رمز ثقافي لأمة كاملة

\"لم يكن صوتها السبب الوحيد في نجاحها، فالسبب الحقيقي في نجاحها هو شخصيتها\".

هكذا تقرر الباحثة الأميركية فرجينيا دانيلسون، في كتابها \"صوت مصر.. والأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين\"، الذي ترجمه عادل هلال عناني، وصدر عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة.

وتذكر الباحثة أن المصريين لم يحبوا صوت أم كلثوم وحسب بل احترموها، و\"عندما ننظر إليها نرى خمسين عاما من تاريخ مصر، فهي لم تكن مجرد مطربة، فمن تكون إذن؟ وما الدور الذي لعبته الموسيقى في تشكيل شخصيتها وفي تشكيل نظرة الجماهير إليها، وهل يمكن لخمسين عاما في المجتمعات العربية - والتي تبدو النساء في أعين الغرباء مقهورات وصامتات ومحجبات - أن تعبر عنها امرأة واحدة من خلال عملها وحياتها؟

عن هذه الأسئلة وغيرها يجيب البحث الذي استغرق خمس سنوات من عمر صاحبته، قضتها بين البحث النظري والميداني، داخل مصر وخارجها، بهدف وضع \"ظاهرة أم كلثوم\" في سياقها التاريخي وربط صعودها بمجريات التغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي في مصر أوائل القرن العشرين عبر قراءة مجموعة من الصور الفوتوغرافية والوثائق النادرة ومصادر مختلفة في دراسة أم كلثوم وتحليلها، ولعل ذلك ما يميز هذا الكتاب ويضعه في صدارة مئات الكتب التي تناولت حياة وفن كوكب الشرق.

• رمز ثقافي

تناولت الكاتبة أم كلثوم باعتبارها \"الفرد الفذ الذي أثر في مجتمعه\" وتذكر أنها باعتبارها غربية لم تنشأ على حب صوت أم كلثوم، فلم تبدأ دراستها من منطلق الحب الغريزى لغنائها، تقول \"فأنا كباقي الغربيين لا أفهم غناءها أو موسيقاها، لكني ولجت إلى مجتمع أهل الغناء بالقاهرة كشخص في حاجة لمن يشرح له السبب في أن غناء أم كلثوم كان غناء جميلا، فقصتي هي قصة موسيقي أكاديمي غربي تعلم أن يحب وأن يقدر الغناء العربي. قادت أسئلتي عن أم كلثوم أسئلة عن المجتمع العربي والمصري\".

وترى فرجينيا دانيلسون أن \"ثومة\" كانت رائدا ثقافيا بالمعنى العام للكلمة باعتبارها شخصية عامة، وباعتبارها رئيسا لنقابة المهن الموسيقية لسبعة أعوام وعضوا بلجان حكومية معنية بالفنون ومبعوثا ثقافيا مصريا إلى الدول العربية، ولذا فعند وفاتها في في الثالث من فبراير/شباط من عام 1975 وصفت جنازتها بأنها أكبر من جنازة الرئيس جمال عبدالناصر، لقد كانت على مدى أعوام طوال \"صوت ووجه مصر\" وما زالت حتى اليوم شخصية لا غنى عنها في الحياة الموسيقية العربية.

وعن حفلاتها الغنائية أيام الخميس شاعت حكايات كثيرة، من بينها أن قائدا عسكريا أرجأ مناورة للجيش ليتمكن من سماع الحفل، كما أن الحياة في العالم العربي كانت تتوقف تماما عندما تغني أم كلثوم.

فمن هي المطربة التي كان العرب جميعا يعيشون في عالمها طوال يوم حفلها؟ أم كلثوم التي لم ترفع من شأن الغناء العربى فقط أو من شأن المرأة المصرية والعربية التى كانت مهمشة في ذلك الوقت، لكنها أيضا خلقت روحا جديدة عابرة للطبقات، فكانت أول فلاحة يتقدم باشا طالبا الزواج منها، ولم يكن مجرد باشا بل كان خال الملك فاروق والوصي على العرش.

يجيب الكتاب عن السؤال مقدما سرداً تاريخياً للمراحل التي مرت بها أم كلثوم منذ ميلادها وحتى وفاتها، ويتوقف عند المحطات الأكثر أهمية في مسيرتها، ففي أول مرة غنت في القاهرة: \"كانت الصفوة من رجال مصر هناك.. وكان من بينهم عدلي باشا يكن وعبدالخالق ثروت وعلي ماهر والأستاذ أحمد لطفي السيد.. جاءت فتاة تدفعها السيدات لداخل القاعة وكانت ترتدى الملابس الريفية.. مما جعلها تشعر بالخجل وسط سيدات الأسرة بملابسهن الفخمة.. ومازلت أذكر استهانة الحاضرين بهذه الفتاة.. وطرحتها السوداء تغطى رأسها ووجهها فيما عدا عينيها وفمها.. انصرف عنها إلى الحديث فيما بينهم ولكن لم يكد صوتها يخرج من فمها حتى توقف الضيوف عن الكلام وساد القاعة الصمت لبضع ثوان..غنت أم كلثوم أغاني دينية، وانتبه الضيوف إلى غنائها وأخذوا يطلبون منها أن تعيد عليهم ما كانت تغنيه\".

هكذا أحدث صوتها أثره منذ اللحظة الأولى، لم يكن مجرد صوت بل \"شخصية\"، لذا كبرت تلك الفتاة الريفية ذات الرداء البدوي لتصير رمزا ثقافيا لأمة كاملة.

يتوقف الكتاب عند عام 1926 باعتباره يمثل واحدة من أهم نقاط التحول في حياتها إذ بدأت الغناء بمصاحبة تخت من عازفين وبغض النظر عن كونهم مختارين بعناية من بين أمهر عازفي القاهرة، إلا أن الخطوة نفسها أخرجتها من صفوف مطربي الحفلات الشعبية والهواة والمغمورين إلى عالم المطربين المحترفين كما تحررت هي من سيطرة أسلوب الإنشاد الديني. لتبدأ أسلوبا غنائيا خاصا بها يصفه الكتاب بأنه \"يغذي التيار الرومانسي السائد في الثقافة التعبيرية، وكانت نصوص أغانيها وقصص أفلامها فردية النزعة رفيعة النبرة منفصلة عن الحياة اليومية.

ويقدم الكتاب تحليلاً موسيقياً لبعض أغنياتها بخاصة تلك التي أطلقت شهرتها مع الشاعر أحمد رامي والملحن محمد القصبجي ومنها \"أن كنت أسامح\" وهو مونولوج يجسد الخصائص الأسلوبية لأم كلثوم في مرحلتها الجديدة. من حيث قدرتها على استعارة إيماءات من الموسيقى الغربية ووضعها في قلب النسيج النغمي للموسيقى الشرقية، وجرى ذلك كله في مناخ كان محمد عبدالوهاب بتجديداته الموسيقية عنصراً فاعلاً في صوغه كما كان رياض السنباطي وزكريا أحمد يسعيان الى تحديث أسس التأليف الموسيقي العربي بالتجديدات الإيقاعية. وقد أفرزت هذه التجارب الجديدة جنساً جديداً من الغناء في الثلاثينيات من القرن العشرين هو الأغنية التي أذابت الفوارق بين الدور والمونولوج والطقطوقة.

وفي الأربعينيات غيرت من أسلوبها وعناصر موسيقى أغانيها التجريدية، بتقديم أغان بالعامية المصرية كتبها بيرم التونسي ولحنها زكريا أحمد ، وفي نفس الوقت غنت القصائد الفصيحة، لذا وصفت بـ \"المطربة التي قربت التراث الشعري العربي من الناس\" وقد شاركها هذه المغامرة رياض السنباطي الذي ترى الكاتبة انه أبدع هو وأم كلثوم صيغة موسيقية مناظرة للكلاسيكية الجديدة في مجال الأدب. أما محمد عبدالوهاب فقد أعطى لأغانيها نكهة الحداثة التي ميزتها على مدى الخمسة عشر عاماً الأخيرة من حياتها.

ومن علامات التفرد التي يرصدها الكتاب قيام أم كلثوم بتولي مسؤولية تنظيم حفلاتها التجارية من دون الحاجة الى \"متعهد أو وسيط\" وتعتبر ممارسة هذه المسؤولية جزءاً من ممارسة أعمق لقدرات \"المرأة الاستثناء\"، لكن الخطوة الأهم كانت اعتمادها على علاقات مع أصحاب النفوذ، هؤلاء الأصدقاء والمعجبون كانوا يلتقون بها في بيتها في وجود أخيها وأبيها. وبمرور الوقت اجتذب صالونها شخصيات عامة، مثل طلعت حرب وشوقي والعقاد ومكرم عبيد وفكري أباظة وغيرهم، ومن كل هؤلاء حصلت على خدمات وتعلمت كيف تتحدث بذكاء في السياسة والأدب وكيف تتمثل سلوكيات المجتمع الراقى.

وتختتم الباحثة كتابها بالحديث عن \"تراث مغنية\" بقولها: \"في التسعينيات صار لأم كلثوم جمهور في مختلف القارات فاق بكثير ما كان لها في حياتها.. فقد أبقى الكتاب على اختلاف لغاتهم ذكراها حية في الأذهان، وحكوا عنها قصصا جديدة، والآن تطبع قصة حياتها في الكتب التعليمية الموجهة للأطفال في العديد من دول العالم\". (خدمة وكالة الصحافة العربية).