نجيب بلدي: 'مدرسة الإسكندرية' حركة فكرية وليست متحفا

محمد الحمامصي
معان فلسفية ضمنية

ما هي مدرسة الإسكندرية؟ ومتى قامت؟ وما علاقتها بفلسفة الإسكندرية؟ وهل هناك نوع من التفكير خاص بتلك المدينة، نشأ فيها أو لا ثم انتقل منها في العصر القديم، وطبع بصفاته التفكير الإنساني، في العصور الوسيطة والحديثة حتى اليوم؟

تساؤلات سعى د. نجيب بلدي للإجابة عنها "تمهيد لتاريخ مدرسة الإسكندرية وفلسفتها" الصادر أخيرا عن دار آفاق للنشر، حيث أشار إلى أن مؤرخي الفلسفة في العصر القديم لاحظوا اختلاف العبارتين "مدرسة الإسكندرية" و"فلسفة الإسكندرية". فالعبارة الأولى أشد إبهاما وأكثر لبسا من الثانية.

وقال "إذ بينما كان لأفلوطين، ممثل فلسفة الإسكندرية، تاريخ محدد، في ما يتعلق بحياته وتعليمه وكتبه، فلا يمكن تقرير ذلك عن مدرسة الإسكندرية.. فقد قامت بتلك المدينة أكثر من مدرسة واحدة: هناك "متحف الإسكندرية" أو معهدها العلمي ونصيب الفلسفة فيه كان قليلا ضئيلا، ثم هناك عدة مدارس قامت لتعليم الفلسفة بالإسكندرية، وتتابعت مدة أربعة قرون، وانتهت إلى قيام المدرسة المسيحية "didascalee" على يد أوريجين في القرن الميلادي الثالث،

وتختلف هذه المدارس فيما بينها: فلبعضها صفة تعليمية واضحة، وللبعض الآخر صفة إرشادية تلقينية ـ إن صح القول ـ أكثر وضوحا. ومع ذلك، فيجب ألا يخيل إلينا، أن معنى "فلسفة الإسكندرية" خلو من الإبهام، وإن كان أقل لبسا وإبهامًا من معنى "المدرسة".

وأضاف "إن صح أن هذه الفلسفة لا تكتمل إلا عند أفلوطين، وأن أفلوطين مثلها للاحقين، فأفلوطين لم يقم بالإسكندرية طوال حياته ولم ينشئ فيها مدرسته. ولا كون فيها تلاميذه، ولا أعد فيها دروسه. تلك الدروس التي تحولت على يد فورفيريوس إلى كتاب "التساعيات".

ومن أجل هذا اللبس المزدوج بصدد المدرسة والفلسفة عالج د. نجيب في تمهيده الأحداث التي سبقت نشأة مدارس الإسكندرية من جهة، والتحول الفكري الذي سبق فلسفة أفلوطين، وأعد قيامها من جهة أخرى.

وليست المعالجة الأولى دون الثانية في الأهمية، هذا لأن الأحداث المذكورة مليئة بمعان فلسفية ضمنية، كان لها أثرها في المدارس الفلسفية وفي تطورها حتى العصر الذي سبق أفلوطين قبل أن يترك مدينة الإسكندرية.

ومعروف أن بطليموس خليفة الإسكندر، هو مؤسس "المتحف"، بينما كان تأسيس المدينة راجعا إلى الإسكندر ذاته. فإن وجبت الإشارة إلى بطليموس، عند بداية الكلام عن الإسكندرية ومدارسها، وجب أولا الكلام عن الإسكندر، وذلك لا لأنه أنشأ مدينة الإسكندرية فحسب. بل لأن إنشاءها عنده كان من مظاهر مشروع حضارة جاوزت في أهميته الحضارة البطلمية. إن هذا الإنشاء، كان إعداداً لحكمة جديدة، هي حكمة الإسكندرية وفلسفتها.

بدأ د. نجيب بالإسكندر، ثم تكلم عن الإسكندرية، ومن بعد ذلك عن "مدرسة الإسكندرية" وعن التحول الفكري الذي أدى إلى ظهور فلسفة الإسكندرية. وقال "إذا كان غرضنا استخلاص معنى لمدرسة الإسكندرية، قد يلقي ضوءًا على نشأة فلسفة جديدة هي فلسفة الإسكندرية، فلا بد أن نرفض مبدئيا موقفين متطرفين، أحدهما يقرر أن "مدرسة الإسكندرية" هي"المتحف"، وهذا غير صحيح، لأن "المتحف" لم يكن مدرسة فلسفية، ولأن تعليم الفلسفة، لم يبدأ إلا بعد قرون من نشأته، ولأن نصيب الفلسفة فيه كان ضعيفا بين سائر الدراسات. والموقف الثاني يقرر أن "مدرسة الإسكندرية" هي مدرسة أفلوطين، وهذا أيضا غير صحيح، لأن أفلوطين أسس مدرسته بروما لا بالإسكندرية.

ورأى د. نجيب أنه مما لا شك فيه، هو قيام بعض مدارس خاصة بالإسكندرية لتعليم الفلسفة، وذلك مدة ما قبل بداية العصر الميلادي. وأمر مؤكد آخر، هو تأثر هذا التعليم بالفلسفة الأفلاطونية، وبأفلاطونية اصطبغت بالفلسفة الرواقية. وأمر مؤكد ثالث، هو اتصال هذا التعليم في الزمن، واستمراره حتى العصر الذي سبق أفلوطين مباشرة، وإعداده للجو العقلي الذي سينشأ فيه تفكير أفلوطين بمدينة الإسكندرية ذاتها.

أيكون المقصود إذن بمدرسة الإسكندرية هذا التعليم الفلسفي المتصل الذي استمر مدة طويلة، وتأثر بالفلسفة الأفلاطونية بمعناها العام؟ نعم قد تكون هذه هي الإجابة بالفعل، إذا كان من المتعذر علينا أن نهتدي إلى إجابة أكثر تحديدا، وإلى علل تفسر قيام فلسفة أفلوطين، وإلى أقرب العلل لتلك الفلسفة زمنًا ومعنى.

ودرس د. نجيب التأليف الهرمسي، في الموضوعات الفلسفية والدينية. وقد انتهي من ناحية، إلى اعتبار هذا التأليف الأخير، الذي يشهد على وجود تعليم فلسفي ديني خاص في القرن الميلادي الثاني ـ مما يمهد إلى فلسفة أفلوطين، تمهيدا يكاد يكون مباشرا، وإلى اعتبار هذا التأليف مظهرا لنزعة فكرية، تجاوز الإسكندرية مكانًا، والعصر القديم زمنًا، وتعمل على التأثير في مختلف مظاهر الفكر الإنساني حتى اليوم.

وقال "أما أسباب اعتبارنا الأول، فهي أولًا، أن التأليف المذكور قريب جدا في الزمن من عصر أفلوطين، قد لا يفصل بينهما إلا مدة خمسين سنة على الأكثر. وثانيا، أن هذا التأليف يحمل من بين صفاته البارزة صفة "السرية"، التي نجدها في التعليم الفلسفي الذي تلقاه أفلوطين بالإسكندرية على يد أمونيوس، والذي ترجح بدايته في أوائل القرن الثالث. قد كان هذا التعليم الفلسفي الأخير أقرب ما يكون إلى الإرشاد والتلقين يشترط فيه المعلم على التلميذ، ألا يعلن عن فحوى التعليم، كما بين ذلك فورفيريوس في ترجمته لحياة أفلوطين.

أما السبب الثالث فهو التشابه القوي في عدة نواح رئيسية بين التعليم الهرمسي وتعليم أفلوطين، كما يظهر في "التساعيات"، وذلك رغم عدم وجود دلالات كافية على مطالعة أفلوطين للمؤلفات الهرمسية.

وأشار د. نجيب إلى صفتين مشتركتين بين التعليم الهرمسي وتعليم أفلوطين تجتمعان وتتحدان، الصفة الدينية والصفة الأفلاطونية. "وقد رأيناهما في أساس التعليم الهرمسي وجوهره، وهما ثابتتان في فلسفة أفلوطين. وقد رأينا الفلسفة اليونانية، والأفلاطونية بنوع خاص، تتحول تحت تأثير عدة عوامل، إلى فكر ديني، تغلبت فيه صفة الإيمان على صفة البحث والمناقشة، وصفة الوحي على تعاليم العقل، والصيغة الأسطورية على "القول" الفلسفي. وقد كان التأليف الهرمسي في نهاية التحول الذي اختفى عنده التفلسف وحل محله التصوف. وكانت غاية التصوف كما رأينا، أن يخرج الإنسان من نفسه، ليحقق مساواته بالإله، وتتم تلك المساواة عندما يصبح الوجود الإنساني وجودا فكريا إلهيا".

وأوضح أن التصوف الهرمسي ـ وخاصة هذه الناحية منه التي يتحول الإنسان عندها إلى وجود فكري إلهي ـ وراء فلسفة أفلوطين ووراء العناصر التي أعدت مباشرة فلسفة أفلوطين، سواء كانت هذه العناصر قائمة في تعليم أمونيوس بالإسكندرية، أو كانت موجودة عند أفلوطين قبل أن يبدأ الاستماع إلى أمونيوس، أو كانت متضمنة في المطالعات التي عملها بعد ترك مدينة الإسكندرية.

فهذا "الفكر" الذي قالت به الهرامسة، والذي يندمج فيه الوجود الإنساني، ويصبح فيه وبفضله مقارنا للوجود كله، هو العقل الذي تكلم عنه أفلوطين. ولم يكن "العقل" عند هذا الأخير قدرة على التحليل والتركيب والاستدلال. ولم يكن أيضا قدرة على تحقيق الفضيلة والحكمة الفردية. إنه كان قبل كل شيء "العالم المعقول" كله، أو بعبارة أدق المعالم المعقولة للوجود، لوجود لا تنفصل فيه الأشياء بعضها عن بعض، ولا تتجزأ، لا تتغير ليختفي بعضها ويحل محله بعضها الآخر، كما هو الأمر في عالمنا هذا، بل وجود يخرج فيه الجزء من الكل ليعود إليه، وجود تكون فيه المظاهر الجزئية أصداء ومرايا بعضها إلى بعض، وأصداء ومرايا للكل. هذا ما لا بد من توضيحه في ما بعد، وهذا في نظرنا الثمرة الفلسفية الأولى للتعليم الهرمسي.

وأشار د. نجيب إلى أن التفكير الذي ارتبط به باسم هرمس والمؤلفات المنسوبة له، كان معروفا عند العرب، وكان له تأثير خطير جدا في نشأة العلوم العربية، وخاصة في نشأة الكيمياء عند رجل مثل جابر بن حيان، ثم يكفينا أن نذكر من مفكري العصر الحديث الفيلسوف الإيرلندي، جورج باركلي، صاحب الفلسفة "اللامادية"، والذي نشر في المدة الأخيرة من حياته كتابا أسماه السلسلة siris ، انتقل فيه من علم الطبيعة إلى الكيمياء، ومنها إلى علم النفس، فالعلوم الدينية انتهى إلى عقيدة التثليث، رابطاً في سلسلة واحدة، بين أدنى مظاهر الوجود وأرقاها، بين أكثر العلوم مادية وأرفع المبادئ الروحية، مستشهداعلى مواقفه بكتب المحدثين في العلم، وبمؤلفات الأقدمين في الفلسفة والدين.

وفي مثال باركلي دلالة على خطر التفكير الهرمسي، وعلى طبيعة هذا التفكير أيضا. إذ لا يكفي لفهم الهرامسة، أن نعتبر نهاية رحلتهم وهي المعرفة الصوفية، بل يجب علينا أن نعتبر الرحلة كلها، وكيف تأدى المسافر فيها إلى هذه النهاية، وأي أمكنة اجتاز في أثناء رحلته. وكيف كان جو الرحلة.

والأمر الواضح، أن الهرمسي رحالة بين مختلف العلوم والفنون، بين الطب والفلك والكيمياء، بين العلم والسحر والفلسفة، بين كل هذا والعلوم الدينية. إنه رحالة.. وإن كانت رحلاته عقلية روحية. إنه في رحلة مستمرة، في "خروج" مستمر، وقد عرفنا أن القوة المسيرة له في هذا "الخروج"، هي القوة الإلهية التي تدخل قلب المريد وتملأه نورا، وتحوله إلى فكر وعلم وعرفان أو على الأٌقل، إلى إرادة فكر وعلم وعرفان، تقضي على كل إرادة أخرى عنده.

وأضاف "نجد شيئا من هذا عند باركلي، وإن كانت معالم الرحلة مختلفة، وإن كان باركلي نفسه رحالة حقيقيا، لا بالمعنى العقلي والفكري فحسب. فبعد أن بدأ حياته الفكرية معتكفا منفردا بنفسه، لينشئ مذهباً ينكر فيه المادة والامتداد، هو يقرر الفكر وحده، خرج إلى العالم وعاش في المجتمع وتعلق به الناس، إلى حد أن صاحبه البعض في رحلة طويلة إلى جزر أميركية نائية، أراد أن ينشر فيها مذهبه الروحي، ثم رجع من تلك الجزر عند نفاد أمواله، وعين أسقفا لمنطقة فقيرة بأيرلندا، تفشى فيها وباء من الأوبئة، وهناك وفق إلى علاج تعلم أصوله الكيميائية بأميركا، وفي مطالعاته لكتب الأقدمين، ومارس العلاج ونجح فيه نجاحا طيبا. فرأى لزاما عليه أن يؤلف كتابا يمجد فيه الله ويشكره ويوضح فيه الطريق إلى الخلاص، هذا مثال واضح على تأثير نزعة للفكر الإنساني، كان التأليف الهرمسي بالإسكندرية مظهرا لها، نزعة إلى الترحال، وإلى"الخروج" منبعها، في رأي أصحابها، قوة الإله الروحية".

وفي نهاية الكتاب تساءل د. نجيب: هل التعليم الهرمسي و"مدرسة الإسكندرية" شيء واحد؟ واضح أنه مهما تكن الأسباب التي تدعونا إلى الإجابة عن السؤال بالإيجاب، فهذه الإجابة ليست حاسمة بالمعنى التاريخي، محددة كل التحديد، أو بعبارة أخرى ليست هناك "مدرسة للإسكندرية" لها ما للمدارس الأثينية المعروفة من مزايا التحديد التاريخي والمكاني أيضا. والتعليم الهرمسي الذي امتدت آثاره حتى أفلوطين، وبعد أفلوطين، لا يمكن فصله عن هذه الآثار ذاتها، ولا يمكن بالأولى فصله عن جميع مراحل التعليم الفلسفي السكندري السابقة، وعن عوامل التحول التي بدأت تعمل منذ عصر فيلون. ولكن عوامل التحول هذه لما كانت توجد، ولما كانت تؤثر بدون مركز للتحول قام قبل عصر الهرامسة وقبل فيلون، بدون الإسكندرية، وبدون الإسكندر مؤسس هذه المدينة.

وخلص د. نجيب إلى أن "مدرسة الإسكندرية" على هذا كله. وهي تدل بوجه خاص على حركة فكرية قامت بين ماض يوناني سكندري، ومستقبل روماني غربي ومستقبل عربي شرقي، حركة مثلها التعليم الهرمسي، بمدينة الإسكندرية، في القرن الميلادي الثاني، أفضل تمثيل.