قبر اسمه الديمقراطية

حين احتل الاميركان العراق وضعوا الديمقراطية في الدرجة الأولى من سلم المكاسب التي وعدوا بها السعب العراقي.

قالوا إنهم كذبوا في ما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل وعلاقة النظام العراقي بتنظيم القاعدة من أجل اسقاط ذلك النظام الاستبدادي ونشر الديمقراطية. فالعراقيون شعب يستحق أن ينعم بواحدة من أعظم هبات العالم الغربي، أقصد الديمقراطية.

لقد هبطت الديمقراطية الأميركية من السماء على العراقيين باعتبارها وصفة جاهزة لا يحتاج تطبيقها أي عناء يُذكر.

وبما أن تلك الديمقراطية قد هبطت بالمظلات فإن الأميركان لم يجاملوا الأحزاب الدينية حين أوصلوها إلى سدة الحكم.

فالديمقراطية صارت هي الأخرى نوعا من القدر. ومَن يؤمن بالقدر أكثر من دعاة الإسلام السياسي الذي تعهدوا بالإبقاء على الفقر بل وزيادة مستوياته وتنوع أسبابه باعتباره قدرا لا مناص من الخضوع له.

حينها استسلم العراقيون للديمقراطية مثل مريض يتجرع دواء مرا أملا في الشفاء. ولم تكن صدفة أن ذلك الدواء قد أسقم المريض ولم يشفه، لا لشيء إلا لأنه كان دواء زائفا أو على الأقل منتهي الصلاحية.

وليس من باب المشاكسة القول إن العراقيين في وقت مبكر من رحلتهم في غياهب الديمقراطية صاروا يحنون إلى نظام استبدادي يعيد إليهم الشعور بالأمان وينقذهم من جنونهم الطائفي ويعيد إلى الدولة شيئا من الهيبة والاحترام.

لم يكن العراقيون جياعا إلى ديمقراطية تهبط عليهم بالعمائم. لذلك كان الخيار الديمقراطي أقسى عليهم من رؤية المفارز التي تبحث عن الهاربين من خدمة العلم لتقبض عليهم وترسلهم إلى ساحات الحرب أو ساحات الاعدام.

كل الحروب التي خاضها العراق في ظل قيادته (الرشيدة!) السابقة هي أقل خشونة من ديمقراطية حلت من خلالها معادلة الحلال والحرام محل القانون واستباحت الميليشيات الطائفية والعرقية بموجبها العراق من شماله إلى جنوبه حاملة راياتها الكئيبة التي تذكر بأسوأ مراحل التاريخ العربي ــ الإسلامي.

وكما يبدو فإن الأميركيين كانوا حريصين على تجريب تلك الديمقراطية الخشنة في العراق. الدليل الظاهر على ذلك يمكن العثور عليه في الحادثة الشهيرة التي تلقى فيها الرئيس الأميركي جورج بوش الابن حذائي منتظر الزيدي. حدث ذلك في مؤتمر صحفي عُقد ببغداد كان بوش يعبر فيه عن دعمه واسناده للمالكي الذي هو من وجهة نظر الاقتصاديين الأميريكين عراب أكبر عملية فساد شهدها التاريخ.

ولكن بوش في دعمه للمالكي انما عبر عن إخلاصه للعملية الديمقراطية التي لا يزال العراق يعيشها بنجاح منقطع النظير.

الغريب في الأمر أن الولايات المتحدة التي فرضت الديمقراطية على العراق بالقوة المسلحة لم تتعب نفسها في البحث عن ديمقراطيين يقومون بإداء المهمة بل عهدت بتلك المهمة لأحزاب تعرف أنها لا تؤمن بالديمقراطية. وهي بذلك تكون قد وفرت غطاء لاستبداد سيفتك بالشعب العراقي بطريقة رعناء تخلو من أي ذكر للثوابت الوطنية والإنسانية.

لقد انحطت الديمقراطية في العراق بكرامة الإنسان إلى مستويات غير مسبوقة لم يرد لها ذكر في تاريخ الاستبداد. ففي ظل الديمقراطية فتحت خزائن البلاد للصوص المحليين والعالميين. وعلى أنغام نشيدها تسرب الأطفال من المدارس التي لم يعد لها ذكر وصار خريجو الجامعات يتلون أناشيد دينية طائفية بدلا من قسم الولاء للوطن والإنسانية. وكان انهيار القطاع الصحي واحدا من بركاتها. كما أن العراق بعد أن صار ديمقراطيا تخلى بشكل مطلق عن الزراعة والصناعة.

اما حين عم الفساد كل مفاصل الدولة بل وسمم نفوس العراقيين فقد كان ذلك مؤشرا إلى أن العراق قد وصل إلى ذروة الديمقراطية، حسب الوصفة التي كانت واحدة من هبات الاحتلال الأميركي.

وإذا ما كانت الانتخابات هي الوجه الوحيد الظاهر من وجوه تلك الديمقراطية، حيث يتساوى الفقراء والأثرياء فيها فإن عمليات التزوير الممنهج الذي تعرضت له تلك الانتخابات قد مزجت الديمقراطية بالفساد وهو ما كان مطلوبا لكي يدرك الشعب العراقي أن الديمقراطية التي وضعت بين يديه انما هي قبر لقيمه بكل ما تنطوي عليه تلك القيم من دعوة للمساواة والاخاء والعدالة.

سيسمي العراقيون في المستقبل هذه المرحلة بـ"مرحلة القبر الديمقراطي" وسينظرون من خلالها إلى أنفسهم بغضب.