إيران.. خصائص استيقاظ المجتمع المدني

نهضة الوحش أم الإنسان العاقل؟!

المجتمع المدني يستيقظ تدريجيًّا، ولا شكّ في ذلك، ويمكن مشاهدة بوادر هذا الاستيقاظ في الانتخابات والحركة العمالية والنشاط النسوي واحتجاجات ديسمبر الماضي، إلا أن الغموض هو الذي يحيط بخصائص هذا الاستيقاظ، فلا نعلم ماهية استيقاظ المجتمع المدني ولا صفاته، فهل سيكون كاستيقاظ “الجميلة النائمة” رومانسيًا يسيطر على النِّظام ويهدي الحرية ويصنع مجتمعًا عادلًا منسجمًا؟ أم على النقيض سنشهد استيقاظ “وحش” يجلب معه الفزع والدّمار، مثل وحش سوريا التي وقعت ضحية مواجهة عنيفة مع النِّظام وحروب داخلية؟ وقد يظهر طريق ثالث هو ولادة “إنسان عاقل وواقعيّ” يميّز القدرات السياسية، ويصنع بالتعاون مع النِّظام مجتمعًا أكثر حرية تحكمه القوانين.

الاختيار بين هذه السيناريوهات الثلاثة بيد الشعب، وصعوبة الأمر تكمن في هذه النقطة، إذ يجب توضيح خصائص كلّ من هذه السيناريوهات أو الروايات، وتَعرُّف الفرص والتهديدات الكامنة فيه، علمًا بأن مسؤولية هذا الاختيار الثقيل تقع على عاتق المجتمع المدني.

ضَعْف المجتمع المدني التاريخي

المعلومات بخصوص “ضَعْف المجتمع المدني” أو “الشعب” في إيران كثيرة، ومن خلال تقييمنا للأعوام المئة الماضية نرى أننا بصدد مجتمع ضعيف في مواجهة حكومات متسلّطة وعنيفة، فمنذ مرحلة ما قبل الثورة الدستورية، عندما كان عدد سكان إيران لا يتجاوز 10 ملايين نسمة -وقد تجاوز عددهم 80 مليونًا- عانى المجتمع المدني دومًا من الضعف.

هذا لا يعني أنه لم يكُن هناك مجتمع مدنيّ من الأساس، فإيران لديها ثقافة أُسريَّة واجتماعية غنيَّة، كما كان فيها ولا يزال القطاع الخاصّ التقليدي، أي السوق، والقطاع الخاصّ الحديث الصناعي، لكن مقارنة هذا بالمؤسَّسات العامَّة والعائدات الحكومية الضخمة والبيروقراطية الحديثة تجعل المجتمع المدني والثقافة المدنية حلقة ضعيفة.

في عهد القاجار كانت سلطة الحكومة المركزية تتمحور حول مواجهة العشائر والقوى المحليَّة، وفي عهد البهلوي فَقدت الأرستقراطية القاجارية، والإقطاعية، ومؤسَّسة رجال الدين التقليدية، وفي النهاية الطبقة المتوسطة، قدرتها السياسية بالتدريج في مراحل مختلفة أمام النِّظام الحكومي، واستمرّت هذه الحال في نظام “الجمهورية الإسلامية”، وهذا يعني أن طبقات وفئات المجتمع المختلفة لم تتمكن من لعب دور مصيري في مواجهة المؤسَّسات الحكومية القوية، فبعد الثورة تشكّلت هذه المؤسَّسات مباشرة، لكنّ ما حدث داخل النِّظام “الإسلامي” هو أنه أصبح متعدد الأقطاب، مانعًا بذلك تشكيل نظام موحَّد، وهذا التطوُّر المهم، أي ظهور تعددية الأقطاب داخل المؤسَّسات الحكومية وترسُّخها في ثقافتها، بغَضّ النظر عن أسبابه وظروفه، أتاح الفرصة لتَشكُّل المجتمع المدني تدريجيًّا، وأن يصبح أكثر قوة وحضورًا على السَّاحة السياسية.

خصائص يقظة المجتمع المدني

يبدو أن التطوُّر الذي على وشك الوقوع في الوقت الحالي، يعني على نحو ما ولادة ونموّ وتَشكُّل أو يقظة المجتمع المدني في إيران، إذ يعيش بعض قطاعات المجتمع ظروفًا تشعر معها بالاستقلالية، وترى نفسها خارج وصاية النِّظام، وتشعر أن بإمكانها تسيير أعمالها، وأن النِّظام لم يعُد قادرًا على إجبارها، واليوم أصبح المجتمع المدني يتّخذ قراراته حسب ما يعتقده هو.

هذا المجتمع بالطبع غير متّحد، وفيه سَمْت التعدُّد، كما أن خصائصه الذاتية مختلفة، وأحيانًا متناقضة، ويظهر ذلك في مختلف المجالات الاجتماعية، كما أنه لا يتبع قائدًا واحدًا، ومن المحتمل أن لا يتقبَّل أيّ قائد، أي إن تقبُّل فكرة وجود قائد أو تيَّار واحد سيكون صعبًا للغاية بالنسبة إليه.

كذلك فمن خصائص هذا المجتمع الأخرى أنه غير رسميّ، ولا يقع ضمن الأُطُر القانونية المحدَّدة والمكتوبة، أي إنه قليل الخبرة، وليس لديه تجربة في العمل والفكر، فهو يفرح ويتحمّس لأنه وجد ذاته، وبسبب هذه السّمات، ولأنه لم يصل بعد إلى مرحلة البلوغ، نجد أن الاستقرار لا يسود أرجاءه، ولا يتوازى فيه عنصر الاستمرارية مع عنصر التغيير، وبعبارة أخرى، المجتمع المدني، في الظروف الحالية، منشغل بمرحلة نمو وتحوُّل وتغيير أكثر من أي شيء آخر، وأصبح التغيير طبيعته.

بالنظر إلى الخصائص المذكورة يُطرح السؤال التالي: كيف ستسير عملية يقظة ونموّ المجتمع المدني الضعيف المتغيّرة؟ وما السمات التي ستميّزها؟ هنا تبرز وجهات النظر المختلفة لدى المراقبين والمنظّرين والنشطاء السياسيين، فهم يطرحون نظريات مختلفة ومتناقضة، يمكن حصرها في ثلاثة سيناريوهات:

1- سيناريو “الجميلة النائمة”

في هذا السيناريو يستيقظ المجتمع المدني كما في رواية “الجميلة النائمة”، ويكون التفاؤل في أفضل حالاته، مستصحبًا حالة من الرومانسية والمثالية، ويكشف أفراد المجتمع عن ذاتهم الإنسانية بجميع ما تحمل من صفات جيدة ومفيدة.

ويكتشف الشعب قدرته المُبدعة دفعة واحدة، مدركًا عظمة وجوده، وتتسبب الإنسانية والتضحية في لَمّ شتات الأفراد وتشكيل جسدٍ متّحد واعٍ وعاقل وقوي كاليد الواحدة، رافعًا نفسه فوق إخفاقات النِّظام التاريخية.

سيناريو هذه المرحلة هو النصر والسرور، فيشمّر المجتمع المدني عن ساعديه حالًّا المشكلات واحدة تلو أخرى دون النظر إلى النِّظام، فعندما يحدث زلزال يقوم على الفور بتوفير الطعام واللباس والخيام والمنازل المؤقتة، ويبني في غضون بضعة أشهر المدارس والبيوت، وعندما تحلّ كارثة بالبيئة يقوم بتنظيف الأحياء والمُدن من النفايات بعزم قويّ.

في هذا السيناريو سيقف الشعب متحدًا، حُرًّا، ويعيش بسلام بعيدًا عن النِّظام، والاحترام متبادَل والحرية تكتنف الأجواء، ولا يسعى أحد لحذف الآخر.

2- سيناريو “الوحش”

في السيناريو الثاني يستيقظ المجتمع المدني كوحشٍ لا يرحم، وتكمن الحقيقة في أقصى درجات التشاؤم، ويتغلب عنصر الغضب والعنف، ويرى المجتمع نفسه في تناقض عنيف مع النِّظام، والأكثر من ذلك أنه يشعر بهذا التناقض العنيف في داخله.

في هذا السيناريو ستتزايد الفجوة بين الصدوع الزلزالية، وستتراكم أحقاد العاصمة تجاه المدن المحيطة، وأحقاد الأعراق بعضها تجاه بعض، وأحقاد التقليد تجاه التجديد، وأحقاد المذاهب، وأحقاد الأديان تجاه العلمانية، وأحقاد حسرة الفروقات الطبقية، وعناد الأجيال، وشيطنة البشر الذاتية.

الانهيار العصبي والطمع بالسُّلْطة سيهيِّئان الأرضية لحياة بلا هُوِيَّة وبلا قانون، وفي النهاية لحرب الجار مع الجار. عندما يرفع النِّظام عصا العقاب عن جسد المجتمع، وينهار جدار الخوف منه، ولا تعود الحكومة قادرةً على إعمال العُنف، ستصبح حينها الصدوع الزلزالية أكثر نشاطًا، وسيستيقظ وحشٌ يقطِّع نفسه إرْبًا، وقد شاهدنا الأمثلة على ذلك في بعض دول المنطقة كسوريا والعراق، وليبيا، وعندما تتزامن هذه الحال مع تدفّق الأموال والأسلحة والدعاية والمجنَّدين الأجانب، فإن الخروج من الدوامة لن يكون سهلًا، وسيكون العنف والدمار هو المضمون الأساسي والجانبي في رواية استيقاظ المجتمع في مواجهة النِّظام.

3- سيناريو “الإنسان العاقل”

في السيناريو الثالث يستيقظ المجتمع المدني استيقاظة “الإنسان العاقل”، وهنا يكون الطابع الغالب هو التعقُّل وبُعدُ النظر، فلا يوقظ باستيقاظه الوحش ولا يجلب معه الأماني الرومانسية كما في الجميلة النائمة، بل في المقابل يقوم المجتمع المدني بتقييم المشكلات والقضايا والفُرص والتهديدات بأسلوب واقعيّ.

هنا، يعتبر المجتمع المدني نفسه “مرتبطًا” بالنِّظام والمجتمع السياسي، وقد يرى للوهلة الأولى أنه غير قادر على التقدُّم والتطوُّر في ظلّ مواجهة قمعية من النِّظام، لكنه عوضًا عن ذلك يجعل نفسه على ارتباط بالنِّظام لا مواجهًا له، ويوجّه جهوده من أجل السيطرة على النِّظام وتنظيمه وتقييده لا من أجل تدميره.

هنا، تصبح مطالب المجتمع المدني أكثر تشذيبًا، ولا تنطوي على طموحات خيالية، وفي نفس الوقت يُدرِك خطر الفوضى والحرب الأهلية والانهيار، كما أنه يعلم المُثُل غير الواقعيَّة ويتجنَّبها، ويعلم أن التنمية الاجتماعية التدريجية والمتكاملة والتغيير لن يكون في لمح البصر وفوريًّا.

عبء الاختيار الثقيل

قد يمكن القول إننا في مرحلة تاريخية يمكن فيها لأي من هذه السيناريوهات أن يحدث، وإن هذا الحدوث منوطٌ باختيار وسلوك أفراد المجتمع، وبعبارة أخرى فإن عبء الاختيار الثقيل يقع على عاتق آحاد المجتمع الذي استيقظ حديثًا، وهم من يجب أن يُقرِّر أيًّا من هذه السيناريوهات سينفّذون، كما يجب تحديد مسار وأسلوب تحقيق أي منها، ومن ثمّ اتّخاذ القرار، وعبء الاختيار الثقيل هذا هو ما يمنح كياننا الاجتماعي -نحن الإيرانيّين- معناه.

سعيد برزين

كاتب إيراني