الناخب العراقي بين العاطفة والعقل

لعل ما يميز الشخصية العراقية هو انها تنفرد بطبيعة غرائبية لا يمكن التكهن لها بثوابت واستقرار بنيوي يرتكز على رؤيا ثابتة تبتعد او تقترب بنسب حيادية وفقا للمتغيرات الحياتية والسياسية والاجتماعية.

الشخصية العراقية غريبة الأطوار كما لو انها تحمل جينات غريبة الطباع. هذه الشخصية العراقية وبسبب عدم ثباتها ونضجها، نراها تميل للعاطفة اكثر منها للعقل وعقلنة الأمور. وهذا المنطق العاطفي اللاعقلاني شكّل سقوطاً في وحل الفاجعة وتمرداً موسوما بتجرده عن اخلاقيات الأختيار الوطني الصحيح ضمن نمطية السلوك الإنساني السليم الدارك لحقيقة ما جرى ويجري وراء الكواليس.

الأنظمة الدكتاتورية رأت في الإنسان العراقي المتعدد الولاءات والمتغير الأتجاهات والمتذبذب عاطفياً، مرتعاً سخياً لتمحور بقاءها في السلطة لأنه مهد لها سر البقاء السلطوي باعتباره الحبل السّري الذي من خلاله تغذت عليه الانظمة الدكتاتورية والقمعية وغذبت به مشروعها السلطوي العبثي الاستبدادي لسنوات وسنوات.

في العراق، ما يميز لغة الجماهير هي اقترابها للعاطفة اكثر منها للغة العقل وعقلنة الامور، وهي العاطفة التي حاولت السلطات التي حكمت العراق ان تستغلها بكل ما اؤتيت من عبثية وادوات سلطوية من تأجيجها والتشجيع على بقاءها وديمومتها لتشكل سّر بقائها، ولتشكل سّر الانقسامات، وتشكل عنصر الضعف لدى الأغلبية من ابناء المجتمع العراقي الذي تستمد منه السلطة الدكتاتورية عنصر قوتها وبقاءها.

تجربة العراق في الإنتخابات هي مشهد من مشاهد هذه الشخصية. فالانتخابات التي يطلق عليها ديموقراطية إنما هي تسمية صحيحة لكنها مغلفة بوهم الحقيقة.

ما يميز الإنتخابات هو شراء الأصوات بلغة العاطفة، وبلغة المصالح، ولغة المنافع الإنتهازية حتى ان الوطن لم يعد له مكاناً بين اصوات العاطفة المزيفة التي هيأت مشنقة للوطن واعدمته امام الجميع.

الأغلبية التي تشارك في الإنتخابات هي اغلبية تحتكم للغة العاطفة، اي بمعنى ان الناخب يمنح صوته ليس للمرشح الذي يحمل مشعل الوطن ليضيء به ظلام العقود المشؤومة، ظلام تمرد الاحزاب، وفساد الاحزاب، وسطوة الاحزاب، وعبثية الاحزاب، المرشح الذي يحمل مشروع وطن وليس مشروع سرقات وخروقات وتخندقات وخصخصات وتحزبات، متجاوزا الصيغ الحزبية والفئوية، المرشح الذي يحمل مشروع وطن ديموقراطي حقيقي ينتشل المواطن من بؤر الفساد والفاسدين ويجتث الظواهر المزيفة التي هيمنت على عقلية وتفكير المجتمع العراقي في سنوات الظلام والفتن والحروب والموت والفقر والطائفية واحالت الوطن الى خراب والى مسطحات مائية عبثت بها طحالب احزاب السلطة السامة.

الأغلبية التي تشارك في الإنتخابات هي اغلبية تحتكم للغة العاطفة، الباحثة عن مصالحها الشخصية اولا واخيراً، ضاربة الوطن ومصالح الوطن وابناء الوطن عرض الحائط. فمثلا نرى ان المرشح يقوم بزيارات مكوكية لعشيرته معتبراً اياها هي الوطن، مستمداً منها قوته، متجاوزا الوطن ككيان، ومتجاوزاً ابناء الوطن الآخرين كمواطنين ينتمون لهذا الوطن ولهم ما له من حقوق وواجبات وثوابت يلتزم بها الجميع.

والناخب، ابن العشيرة، بدوره يهبه صوته حتى لو كان المرشح لا يستحق هذا الصوت، وحتى لو كان الناخب يعرف ان المرشح، ابن عشيرته لا يحمل من المواصفات القيادية والأخلاقية التي تؤهله للمشاركة في العملية السياسية، وحتى لو كان الناخب يعرف عن كثب ان المرشح ابن عشيرته يخترق الثوابت والاخلاق والاعراف الاجتماعية والوطنية، حتى لو كان لصاً، مختلساً، عميلاً، دجالاً، سمساراً يعمل لصالح اجندات خارجية او الغاية من ترشحيه هو تهديم المشروع الوطني ووأد واجهاض العملية الديموقراطية برمتها. والبعض منهم يمنح صوته للمرشح لمجرد علاقات شخصية او علاقات عائلية او علاقات عاطفية تحتمها لغة المصالح متناسين ان اصواتهم ستشكل هدم للوطن وتشويه للمعيار الاخلاقي والغاء لحقوق ابناء الوطن سيما وان المرشح المدجج بمشاريع واجندات خارجية سيعمل على افشاء ظاهرة الفساد والعمل على تكريس الخلافات والشقاقات واذكاء الطائفية المقيتة وجعل من المجتمع والوطن ساحة صراعات مدفوعة الثمن لسنوات وسنوات.

هناك فئة او طبقة من المجتمع تحتكم الى لغة العقل وعقلنة الأمور وهي الفئة المغلوب على امرها لأنها تمثل النسبة القليلة مقارنة بألأغلبية التي تنتهج النزعة العشائرية في المجتمع العراقي الذي تسيدته لغة الجهل ولغة المحسوبية والإنتهازية والطائفية والعشائرية والحزبية.

هذه النسبة القليلة تفكر بصورة جادة لخلق وبناء وطن يتجاوز المشروع الطائفي الذي كرسته الديموقراطية الخاطئة البناء والتشكيل، والتي يمكن ان نسميها «الديموقراطية الطائفية» لأنها فعلا مهدت الطريق الى تفتيت المجتمع العراقي الى طوائف واحزاب واسماء ومسميات كلها تتصارع سرا وعلانية لتقوية نفوذها وابتلاع الآخر، وهذه «الديموقراطية الطائفية» تصب لصالح الجهات الحزبية المتصارعة والمتكالبة من اجل مصالحها ومصالح اشخاصها حصرا وهي كما اشرت إليها تمثل امتداداً للعاطفة العبثية التي عشعشت في دهاليز المجتمع العراقي وغذتها السلطات في العهود السابقة لغرض تسهيل عملية بقاءها في السلطة واضعاف القوى الوطنية وتشتيت الاصوات المخلصة التي تحتكم الى لغة العقل والمصلحة الوطنية في خلق وطن للجميع وليس لفئة معينة او لحزب معين يستأثر به.