كنوز النمرود تكتب صفحة جديدة في تاريخ العراق

لندن - من محمود القصاص
الدكتور علي الجبوري كشف مدى التشويه الذي لحق بتاريخ الاشوريين

رغم التراث الانساني الهائل الذي خلفته مملكة الآشوريين، لم تحظ آثارها وكتاباتها بالاهتمام العالمي الذي تستحقه، ولم تنل حظها من الدعاية والشهرة شأنها شأن حضارة الفراعنة في مصر او الفينيقيين في بلاد الشام.
وكان للعلماء البريطانيين السبق في الاهتمام بتراث الآشوريين، اذ كانت اول المكتشفات الاثرية للعصر الآشوري على يد العالم البريطاني ليار عام 1843، وواصل البريطانيون اهتمامهم بالتراث الآشوري حتى استطاعوا جمع كل النصوص الاصلية لمكتبة الملك آشور بانيبال، والبالغ عددها 25 ألف نص، في المتحف البريطاني.
غير ان الباحثين العراقيين اكملوا المسيرة التي بدأها اقرانهم البريطانيين واستطاعوا ان يضيفوا الكثير لتراث بلادهم، وكان اهم اعمالهم اكتشاف كنوز مدينة نمرود، التي اتخذها الآشوريين عاصمة لهم، والتي تقع بالقرب من مدينة الموصل شمال العراق.
وتضم كنوز نمرود عشرات التحف من الذهب الخالص المنقوشة على شكل تيجان وقلادات واساور منفذة بتقنيات بالغة التطور، وتعادل في اهميتها، ان لم تكن تزيد، اكتشاف كنوز الفرعون توت عنخ آمون.
ومؤخرا شهدت العاصمة البريطانية لندن مؤتمرا عن كنوز نمرود ودورها في فهم الحضارة الآشورية شارك فيه وفد آثاري عراقي كبير ضم الدكتور مؤيد سعيد مستشار وزير الثقافة، وربيع محمود سامي القيسي مدير عام الصيانة والحفاظ على الآثار في الهيئة العامة للآثار، والدكتور دوني جورج مدير عام الدراسات والبحوث في الهيئة، ومزاحم محمود حسين مسؤول التقنيات في مدينة نمرود الاثرية ومنهل جبر اسماعيل مدير اثار محافظة نينوى والدكتور علي ياسين الجبوري رئيس قسم الدراسات المسمارية بجامعة الموصل.
وتأتي المشاركة العراقية في المؤتمر، الذي نظمه معهد الآثار البريطاني بالاشتراك مع المتحف البريطاني، كما اشار الدكتور دوني جورج لتسليط الضوء على تاريخ التنقيبات الاثرية والكنوز الذهبية المكتشفة مؤخرا بالاضافة الى الرقم المسمارية ودراسة مستقبل المكتشفات الاثرية في المنطقة.
ويقول الدكتور علي ياسين الجبوري ان ضخامة كنوز نمرود كانت مفاجأة كبيرة لكل الاثريين العراقيين والاجانب، لانها كشفت حجم الثراء الواسع التي تمتعت به الدولة الآشورية. اذ امتدت حدود هذه الدولة في اوج قوتها الى وسط ايران والاناضول (تركيا) وحتى مصر. وكان ملوك الآشوريين يحصلون على الجزية والضرائب من ملوك البحرين وقبرص واثيوبيا. ودولة بهذا الحجم والثراء لابد ان تترك كنوزا هائلة.
"ان اكتشاف كنوز الملك نمرود غير الكثير من المفاهيم" كما يقول العالم العراقي. ويضيف "كنا نعرف ان كل ملوك الآشوريين دفنوا في مدينة آشور باعتبارها مدينة مقدسة رغم اتخاذهم عواصم اخرى مثل مدينة كالخو او نمرود ومدينة ديرشوركيين ومدينة نينو، لكننا لم نكن نعرف موضع دفن الملكات لانه لم يعثر على جثة اية ملكة آشورية في آشور. وهذا اللغز تم حله بعد اكتشاف كنز نمرود الذي كان خاصا باحدى الملكات، اذ عرفنا ان الآشوريين استخدموا طريقة ذكية جدا لدفنهن، فكان قبرها يبنى في حياتها ويترك به فتحة صغيرة لدخولها ثم تغلق بعد موتها. وفهمنا الآن ان الملكات كن يدفن تحت ارضية القصور والمعابد."
الى جانب هذا الكنز الذهبي ظهر كنز آخر معرفي يتمثل في مجموعة من النصوص المسمارية التي تتم دراستها حاليا. وتظهر هذه النصوص التنظيم الدقيق الذي تميزت به دولة الآشوريين. ووجدت نصوص للكاتب الرئيسي للقصر توضح انه كان يقوم بالبيع والشراء نيابة عن الملكة ولديه دائرة من الموظفين تعينه على اداء مهامه التجارية. ووجدت نصوص توضح ان هناك تقارير دورية عن اداء الحكومة ترفع الى المسئولين ويتابعها الملك الذي ينظر في كل صغيرة وكبيرة باعتباره ممثل الآله على الارض.
ويرى الدكتور الجبوري ان ملوك الآشوريين تعرضوا لظلم تاريخي بتقديمهم على انهم قوم يحبون القتال وسفك الدماء. ويرجع ذلك الى اتهامات التوراة لهم بالهمجية والوحشية من ناحية، والمنحوتات الآشورية نفسها التي تصور القتلى والمعارك من ناحية اخرى.
الا ان حقيقة الامر، كما يرى العالم العراقي، ان ما كتبه الآشوريين به كثير من المبالغات. فالمنحوتات الجدارية كانت عبارة عن وسيلة اعلام ودعاية تبرز تفوق ونجاح ملوك الآشوريين. وكان يتم وضع هذه المنحوتات في قاعة العرش لكي يراها أي زائر فيهاب الملك الآشوري عندما يشاهد حجم انتصاراته وغزواته. وبلغة العصر كانت هذه المنحوتات نوعا من الحرب النفسية الهادفة لادخال الرعب في قلوب كل من يلتقي بملوك الآشوريين.
ويقول الدكتور علي الجبوري انه تتبع بنفسه كثيرا من النصوص الآشورية فوجد ان بها مبالغات لا يمكن تصديقها. مثلا الحديث عن ان الملك دمر مدينة وبجوارها عشرين مدينة اخرى. وفي واقع الامر لم تكن هناك عشرون مدينة او حتى عشرون قرية بجوار المدينة الاصلية في ذلك الزمان. "يجب الا ننسى ان كل ما كان يكتبه الملوك الآشوريين كان يرفع للآلهة على اساس ان الملك هو من يمثل الآله على الارض، فكان الملك يبالغ في ذكر بطولاته وانجازاته ليرضي آلهته".
وترى الدكتورة جورجينا هيرمان الاستاذة بمعهد علم الآثار بجامعة لندن ان اكتشاف كنوز نمرود هو المعادل العراقي لكنوز توت عنخ آمون المصرية.. بل اكثر لانه ليس كنزا واحدا بل اربعة كنوز، وهو في رأيها اكثر الاكتشافات الاثرية اهمية في النصف الثاني من القرن العشرين.
"الطريقة التي صنعت بها كنوز نمرود متطورة بشكل مذهل" حسبما تقول وتضيف "عندما تعرض هذه الكنوز على المتخصصين يقولون ان مثل هذه التقنيات ترجع الى ثلاثة او اربعة قرون على الاكثر لان التكنولوجيا المستخدمة بها متطورة جدا. وعندما تخبرهم ان عمرها نحو الفي سنة يذهلون".
وترى ان هذه الاكتشافات توضح ان الحضارة الآشورية كانت متطورة للغاية، وكانت تهتم بشكل خاص بالدراسة والتعليم وتسجيل اهم ما تصل اليه.
ويتفق العالمان على ان مملكة الآشوريين لم تبح بكل اسرارها بعد، وان في جعبتها الكثير من الاسرار. وكما تقول الدكتورة هيرمان "ان كثيرات من الملكات الآشوريات مدفونات تحت ارضية القصور، ولابد ان بحوزتهن كنوزا هائلة". ولعل السنوات القادمة تشهد مزيدا من الاكتشافات تظهر ابعادا اخرى لحضارة الآشوريين العظيمة.