ربطات العنق لا تغير وجه الدولة الدينية في العراق

بقلم: كرم نعمة
ايرانيات في العراق
تقابل طائفي بين الاحزاب الدينية في العراق وآيات الله في ايران

لم ينتظر اللذين يعتقدون بوجه "الحكومة الدينية" في العراق تحذير آية الله علي السيستاني من أعتماد نظام القائمة المغلقة في الانتخابات التشريعية المقبلة، كي يؤكدوا أعتقادهم.
الحكومة دينية بامتياز منذ ان كتب الدستور، وهي دينية منذ ان تحولت تقاليد المسجد الى الدولة، وهي دينية منذ ان نجحت الاحزاب الطائفية الحاكمة في فرض خطابها على المجتمع العراقي.. فمن يشكك بعد ذلك!
ويبدو ان تأكيد المرجع الديني آية الله علي السيستاني على خصوصيته المرجعية لا السياسية، باتت غير واقعية بشكل واقعي بالامس فقط.
وتحذير حامد الخفاف المتحدث الرسمي باسم السيستاني بقوله: "ان المرجعية الدينية تحذر من ان اعتماد نظام القائمة المغلقة لانه سيحد بشدة من رغبة المواطنين في المشاركة في الانتخابات وسيكون له تاثير سلبي بالغ على سير العملية الديمقراطية" يؤكد سياسية السيستاني بجبته الدينية.
وقال الخفاف الذي لا يصرح الا عندما يريد حسم موقفاً يعبر فيه عن رأي أو لسان السيستاني ان "المرجعية الدينية العليا تؤكد على اعضاء مجلس النواب ان يكونوا في مستوى المسؤولية الكبيرة التي انيطت بهم ويستجيبوا لرغبة معظم ابناء الشعب العراقي باعتماد القائمة المفتوحة في الانتخابات النيابية المقبلة".
تأكيد المرجعية الدينية العليا هنا لا يحمل غير مواصفات الأمر المقدس غير قابل للرفض.
وكان مسؤول في مكتب المرجع اعلن ان السيستاني يلمح الى مقاطعة الانتخابات في حال اقرار نظام اللائحة المغلقة ما ادى الى ارباكات بالنسبة للعديد من الكتل النيابية.
هل سيمارس السيد السيستاني حقه الانتخابي في هذا التلميح؟ أم ليؤكد سلطته السياسية على الحكومة ومجلس النواب؟
"السيد علي السيستاني ايراني الجنسية يعيش في العراق منذ سنوات، ورفض الجنسية العراقية التي اقترحت عليه بعد احتلال العراق عام 2003".
وقد اكد مسؤول في مكتب المرجع ان السيستاني "يؤيد القائمة المفتوحة وفي حال استمر الموضوع على اساس القائمة المغلقة قد لا يكون للمرجعية الدينية العليا دور كبير في دفع الناخب العراقي للمشاركة في العملية الانتخابية".
واضاف "نعتقد ان القائمة المفتوحة احدى الوسائل التي توفر حضور الناخب بشكل اوسع وقد اثيرت هذه المسالة في اطار اللقاء الاخير لدى زيارة ممثل الامين العام للامم المتحدة (آد ملكيرت)".
وختم المصدر ان السيستاني "بيّن وجهة نظره لممثل الامين العام بهذا الخصوص".
اذن لا يحتمل الامر أكثر من وجه، فما يقوله السيد السيستاني مطاع بالنسبة للاحزاب الدينية الحاكمة، وكلمته بمثابة رسالة من "ولي أمر المسلمين".
فهل بقي ما يؤكد غير ذلك: العراق منذ عام 2003 دولة دينية بامتياز، وتحديدا على غرار ايران، وليس سواها.
كذلك تنمو الاخطاء السياسية في مناخ عدم الواقعية أو الواقعية الرثة، لتكون اخر نتائجها، ان تصبح الانتخابات واجب ديني يمرر الاحزاب الطائفية الى السلطة من جديد.
لم يحدث على مر التاريخ ان بنيت دولة على الدين إلا وانهارت، الدولة لاتلتقي مع الدين الا بالحاجة العاطفية، وليس بمقدور الدين بناء دولة من دون أن يفككها، لان العاطفة ثيمة الدين، والبناء لايستند على العاطفة بقدر مايستند على العمل. والدين معاملة وليس عملا.
هل يمكن ألا يكون الامام علي بن أبي طالب مثالاً لرجل الدين المخلص حد الوله لدينه، ورجل دولة عاش الازمة، وهي ازمة ورثتها الدولة الاسلامية ولا تزال تعيشها الى يومنا هذا، الامر الذي قاد الخلافة الى نزاعات كلما شبت تحجج المتنازعون فيها بالدين وكتاب الله.
خذ حركة طالبان نموذجا اخر للفشل الديني في اقامة دولة، ايران الخمينية كذلك، فبقائها محض توجه الى الزوال.
فلماذا يراد للعراق ان يبنيه رجال الدين؟
لقد عرف السياسيون الكبار دوماً على انهم كذابون كبار، كما غالباً ما استطاع الكذابون الكبار ان يكونوا سياسيين كباراً، ورجال الدين في العراق اليوم يغادرون مواصفاتهم المعروفة وحتى أماكنهم المعهودة ليصبحو رجال سياسة، الخميني كان يقول "من لايدخل الدين في السياسية والسياسة في الدين لايفهم في الدين ولا في السياسة" وهذه المعادلة قائمة منذ فرضية بول بريمر التي اعترف بها في كتابه عن العراق "كم رجل دين كان في مجلس الحكم وكم صار عددهم في الجمعية الوطنية؟"
ينقل بريمر عن السيستاني اعترافه بانه من مصلحتهم (اي الاميركيين) ومن مصلحته (اي السيستاني) الا يلتقيان، الا ان التواصل بينهم يجب ان يستمر عن طريق الوسطاء الاخرين.
ومن يتأمل الحكومة في العراق الان لا ينتابه الشك بانها ليس سوى حكومة مسجد كبير، انتقلت فيه تقاليد المسجد الى هياكل البرلمان والوزارات، مع ان هذه التقاليد تفقد مواصفاتها لمجرد مغادرتها المسجد. فهل بمقدور أحد ان يقنعنا انه يمكن بناء دولة بالدعاء والصلاة؟
واذا كان رئيس الوزراء نوري المالكي قد تجاهل فتوى الخميني بتحريم ارتداء ربطة العنق، فهذا لايعني انه ليس المعادل الطائفي للرئيس الايراني أحمدي نجاد الذي استهل يومه الاول في رئاسة الجمهورية بالتوجه الى مقر علي خامنئي فقبل يده للتبارك طالباً دعائه، وهنا على المقربين من السيد السيستاني ان يقنعوننا بانه لايحرّم مشاهدة التلفاز أو التعامل معه، وعندها سنتأكد من ان مشهد زيارة المالكي للسيستاني ليس كزيارة نجاد لخامنئي.!
أنا لا اشك باخلاص نوري المالكي لدينه وتشبثه بفروضه، أنه رجل متدين بامتياز مثله مثل ابراهيم الجعفري، وان اختلفا على حزب أبي وحزب عمي وجدي وطائفتي، لذلك اتخيله عند الصلاة يطلب أكثر مما يطلب مغفرة الله لكونه يتعامل مع "الشيطان الاكبر" حسب التعبير الخميني لاميركا، لكنه في الوقت نفسه قادر على الاستعانة بـ"التقية" لان استثمار الوقت لحين الوصول الى الهدف يجب أن يتم لخدمة بناء دولة دينية اسلامية في العراق .
وهكذا نمت الاخطاء السياسية في مناخ عدم الواقعية اوالواقعية الرثة فالخلط الشنيع الذي يقوم به رجال الدين في عصر العولمة قد يودي الى تجريم مصداقية حماة حقوق الانسان، التي من اجلها احتلت الولايات المتحدة العراق، ليصبح عصر العولمة لحماية حقوق الانسان حرباً ضد حقوق الانسان.
فلم يحدث ان تساءل العراقيون مثلما يتساءلون اليوم "هل نحن مختلفون الى هذا الحد؟" هل حدث على مر التاريخ العراقي المعاصر ان تنكر الجار لجاره لمجرد انه يختلف معه في الطائفة؟
وحدها الاحزاب الدينية في العراق تعرف الاجابة ولا تجهر بها، والا ما معنى ان نعد ببناء عراق ديمقراطي تكون فيه السطوة لرجل دين شاب مثل عمار الحكيم أو مقتدى الصدر يجهر علناً بتحريم كرة القدم، او بحرق امرأة في الشارع تحت مسوغ عملها كمومس وتفجير متاجر بيع الكحول والحانات؟
رجال الدين لايجدون معادلهم الا في رجل دين اخر فالسيستاني أو اليعقوبي او الطباطبائي يجد له نداً مثل السامرائي أو الهيتي أو الكبيسي.
وفكرة الادارة الاميركية تفكيك الدولة العراقية وبنائها على وفق تنوع مفترض وهامشي قياسا للوطنية، هذه الفكرة اضحت واقعاً وتأسست وفقها الميليشيات والاحزاب الدينية وتحولت المدارس من مكان تعليمي معاصر يتوفر في الكتاب والكمبيوتر، الى الجوامع حيث يدرس الاولاد القرآن وسيرة اعلام الورى والخلفاء الراشدين والحديث النبوي أكثر من اي مادة اخرى.
هذا الواقع غير الطبيعي آل الى ان يكون المرجع الديني هو الحاكم الفعلي، وعلى الحكومة ان تقدس ارادته الدينية التي تحولت فيما بعد الى ارادة سياسية، واصبح العراق المساحة الخلفية لايران، فـ "ولاية الفقيه" الايرانية ستدير الانتخابات العراقية المقبلة، ولا فرق هنا ان كانت القائمة مفتوحة أم مغلقة!
الاحزاب الدينية هي اعادة انتاج التخلف، وافرادها لايفكرون في وضع ايديهم بايدي الدولة، لان قيام الدولة يعني تقاعد رجال الدين وهم لايرغبون بالتقاعد وان كانوا في ارذل العمر "عبد العزيز الحكيم قال لمحاورته على شاشة التلفاز لن ولم أترك السياسة الى اخر يوم من حياتي" وكان صادقاً.
بلا شك لاتوجد دولة في فكر المراجع الدينية، وما يوجد اليوم في الحكومة ليس سوى رجال دين يريدون بناء دولة وفقا للدين الذي وضعوه، وليس الدين الواضح الذي يدعو الى النزاهة والصدق والعداله والمساواة. وهو محض علاقة خاصة بين الانسان والله ليس لاحد الحق في التطفل عليها.
ولايغير مشهد رجال الحكومة الدينية في المنطقة الخضراء، مهما ازداد عدد وزرائها الذين يرتدون ربطات العنق، فالعمامة أقوى وأكثر هيبة بالنسبة لهم.
أما الدولة فهي نتاج مشترك وحر لانظمة وقوانين معاصرة، واذا اريد ان يكون للدين حضورا فيجب الا يمت بصلة لقوانين الدولة.
ويبدو ان عراقاً تسيطر عليه (طالبان) جديدة مخيف ومرعب أكثر مما هو الحال الان، والادارة الاميركية تعي أو لا تعي أن خطئها السابق في افغانستان سيصبح اكثر فداحة أن تكرر في العراق.
والعراقيون الذين تراخت ثقتهم بانفسهم اكثر مما كانوا يتوقعون لايقبلون أن يغلق وطنهم على الدين وحده مثلما لايتوقعون ان تصبح بلادهم نسخة من ايران او اي بلد ديني اخر.
مزاعم رئيس الوزراء نوري المالكي ورئيس حزب الدعوة الاسلامية الذي يقتصر أعضاءه على طائفة اسلامية واحدة، حول دولة القانون، لا تقابلها الا مزاعم سلفه ابراهيم الجعفري الذي اسقط البلاد في لجة الموت الطائفي، وعاد الى الائتلاف العراقي بصفته الطائفية بعد ان غادره تحت مسوغ رفضه للطائفية!!
ليس الغرور منافياً للذوق او لعزة النفس اذا كان سلاحاً من اجل القيمة او رد الاعتبار اما اذا كان من اجل اشياء اخرى "كما هو عند المالكي والجعفري" فهو صلف ووضاعة.
هكذا يصبح للرماد أجنحة وترتدي الغربان ربطات العنق وتتجول في التاريخ.. وتغادر البلاد صورتها لتنزوي بكل تاريخها في أدراج المسجد أو مبنى الحوزة الذي لا تدخله الشمس.