أخطر الشائعات في مصر

الدولة التي خاضت معركة قانونية ضارية لاسترداد كيلومتر واحد في طابا يصعب عليها التفريط في ما هو أكثر أو أقل من ذلك.

الشائعة من الأدوات التي تستخدمها جهات كثيرة للنيل من معنويات الشعوب وهدم الدول. ومع التطور التكنولوجي زاد الاعتماد عليها من قبل أجهزة الاستخبارات، ولقيت رواجا كبيرا. وأشار الرئيس عبدالفتاح السيسي مؤخرا إلى أن مصر تعرضت لنحو 21 ألف شائعة خلال ثلاثة أشهر فقط. وهو رقم يكشف ضخامة الاستهداف عبر هذه الأداة.

لست بصدد الدخول في أنواع الشائعات وأسباب الانتشار وطرق المكافحة، لأن لهذا الباب متخصصون في شرح المسألة، لكن أحاول الاقتراب من ظاهرة محددة، لاحظها كثيرون وتوقفوا عندها أو تجاوزوها، وهي متعلقة بشائعتي التنازل عن الأرض وتغيير الحدود.

من أوائل الدروس التي يتعرف عليها الطلبة في الكليات العسكرية، معرفة خريطة مصر وحدودها المختلفة، والأماكن التي تأتي منها المخاطر ويتسلل منها الأعداء. تترسخ لدى الجميع فكرة أن الأرض مثل العرض، من المستحيل التفريط فيها، مهما كان حجمها. الدولة التي خاضت معركة قانونية ضارية لاسترداد كيلومتر واحد في طابا يصعب عليها التفريط في ما هو أكثر أو أقل من ذلك.

هذه قناعة أصبحت راسخة أيضا لدى عموم المصريين، لذلك كانت من أكثر القضايا التي تعرضت للتشكيك ونثر الشائعات حولها. وتم استغلال كل حادثة وموقف وتطور له علاقة بالأرض وانتشرت حوله مجموعة كبيرة من الأكاذيب. جميعها تدور في فلك روايات خيالية عن التخلي على أجزاء من تراب هذا البلد.

الملاحظ أن الشائعة في هذا الفضاء تستهدف ضرب العلاقة القوية بين المؤسسة العسكرية والشعب. وتتكاثر ملامحها بغرض التشكيك في التوجهات الوطنية للأولى، وهز ثقة المواطنين فيها. والجديد أنها لم تعد قاصرة على الداخل بل وصلت إلى ضرب العلاقة مع دول وشعوب شقيقة.

عندما كتبت الأسبوع الماضي مقال "تفوق الرؤية المصرية في الأزمة الليبية"، كان الهدف التوقف عند دور كبير تبذله الأجهزة المصرية على المستويين، الأمني والدبلوماسي، للمساعدة في توفير الأمن والاستقرار في ليبيا. خلال الأيام الماضية قامت اللجان الالكترونية التي تحركها جماعة الإخوان وتقف خلفها قطر وتركيا بالحديث عن ما يوصف بـ "أطماع في أراضي ليبية"، لتخريب دور القاهرة، وإيجاد ثغرة لتأليب الشعب الليبي على مصر وعدم التجاوب مع رغبتها في التهدئة والاستقرار وبناء المؤسسات على قواعد وطنية.

المثير أن العزف على هذا الوتر، تكرر في مرات سابقة مع السودان الذي هدأت العلاقات معه ودخلت طورا إستراتيجيا يتجاوز التباين بشأن بعض القضايا. وكأن من يحاولون نكأ الجراح مع ليبيا يريدون تعويض فشلهم في الحالة السودانية، التي كانت الحدود وسيلة رئيسية للتصعيد والتحريض عند أول خلاف سياسي بين البلدين.

هؤلاء استخدموا الوسيلة نفسها عندما تواتر الكلام عن تسوية سياسية قريبة للقضية الفلسطينية، ورددوا شائعات بالتنازل عن مساحة من أرض سيناء لتوطين الفلسطينيين فيها، وروجوا تكهنات صهيونية دون ادراك لحقيقة الثوابت المصرية، التي وظفت الثقل المادي والمعنوي وقامت بتدخلات كثيرة ومتشعبة سعيا ورا التوصل إلى اتفاقية سلام تلبي جانب معتبر من أمنيات الشعب الفلسطيني في دولة غير منقوصة السيادة.

اللعبة تكررت مع اليونان التي تطورت العلاقات معها، ودخلت مرحلة متقدمة مع انضمام قبرص، بعدها جرى الترويج لشائعة تنازل مصر عن جزء من مياهها الإقيمية مليئة بالغاز، أملا في البحث عن أداة التشكيك في من أبرموا اتفاقيات اقتصادية وأمنية وسياسية مع اليونان.

الموقف أيضا تكرر في حالة جزيرتي تيران وصنافير، التي أقرت مصر بملكيتهما للدولة السعودية، حيث استفادت الدوائر الراغبة في بث سمومها من التوقيع على هذه الاتفاقية، ووجهت سهامها نحو القيادة السياسية، لهز ثقة المواطنين فيها. ربما انجرف البعض وراء الدعاية الكاذبة بحسن نية، لكن من روجوا لها كانت نواياهم سيئة.

القواسم التي تجمع شائعات الأرض بشأن التنازل أو الأطماع، تبدو واحدة تقريبا، حتى لو اختلفت النماذج. ويمكن حصر أربعة محددات رئيسية، تتقدم أو تتأخر، لكنها في النهاية كاشفة لطبيعة الخطاب الذي يردد معزوفة حافلة بالأكاذيب والأصوات الشاذة.

الأول: تحقيق مصر لنجاح لافت على صعيد السياسة الخارجية. ففي حالة ليبيا هناك دور كبير في حل الأزمة لا تستطيع أن تتجاهله أية قوة إقليمية أو دولية تريد التسوية. لذلك تصاعدت بسرعة وتيرة شائعة "الطمع في أراض ليبية". وهو النجاح نفسه الذي تحقق مع اليونان والقضية الفلسطينية. فلن تتمكن بعض الجهات من ممارسة دور سلبي في ظل تضخم مكانة مصر في المنطقة.

الثاني: وجود ثلاث جهات رئيسية، هي الإخوان وقطر وتركيا، تقف خلف غالبية الشائعات المتعلقة بالحدود، وغيرها طبعا، بهدف الانتقام من النظام الذي أنقذ البلاد من المصير الغامض الذي رسمه هؤلاء. وتتزايد معالم الشائعات مع كل نجاح يجري تحقيقه في الداخل والخارج، أملا في التشويش عليه، والتشكيك في جدواه، وإثارة أجواء من الإحباط في أوساط المواطنين.

الثالث: محاولة هز ثقة الشعب في قيادتهم التي لعبت دورا فعالا في تكسير عظام الدوائر الثلاث السابقة، انطلاقا من تعلق المصريين بأرضهم وارتباطهم الوثيق بها ودفاعهم المستميت عنها. وجاء التركيز على شائعات التنازل في قضايا مختلفة لحضهم على توجيه انتقادات، وحثهم لزيادة الغضب من الحكومة، وعدم الوثوق في نواياها حيال جميع القضايا الداخلية، وإيجاد مساحة كبيرة من التململ.

الرابع: قطع الطريق على استفادة مصر من أي توجهات تعاونية في الإقليم. فإذا تم تثبيت فكرة التنازل على مساحات مختلفة من الأرض، يمكن أن تتعطل المشروعات التكاملية الواعدة في سيناء مع السعودية، والطموحة في البحر المتوسط وتضم اليونان وقبرص بجانب مصر، والمتوقعة مع كل من السودان وليبيا.

في جميع الحالات تبدو الدوائر الثلاث السابقة متضررة بقوة من التوجهات المصرية التنموية، لما تنطوي عليه من انعكاسات على مصالحهم الاقتصادية، علاوة على ضرب مشروعهم لتوظيف التيار الإسلامي في كل من السودان وليبيا وغزة.

بالتالي فالشائعات في مصر تتجاوز اختفاء بعض السلع وارتفاع أسعار أخرى لأرقام خيالية، إلى ما هو أهم من تشكيك في مشروعات وطنية وعلاقات مع دول صديقة، والأخطر أنها دخلت على الحدود من أوسع أبوابها. وهو ما يتطلب المزيد من اليقظة الشعبية، والمزيد من الشفافية الرسمية.