أزمة الحوار الديني.. لا شيء عن الأديان الأخرى لدى الأغلبية

سيطرة بعض العقائد الدينية والمذهبية الأحادية التي تذهب إلى نفي الآخر وشيطنته وتنسب إليه الشرور حتى يبدو نفي الآخر جزء من محاولات بناء الأسوار حول الذات وغالبًا ما يلجأ هؤلاء إلى المنظرين المتشددين أو رجال الدين المتطرفين.

بقلم: نبيل عبد الفتاح

تتمثل إحدى الظواهر السياسية والدينية والفكرية السلبية في الحياة العربية المعاصرة؛ في رفض الرأي الآخر، أو قبوله في بعض الأحيان على مضض، حيث تسود في بعض الأحيان الرؤى والآراء الأحادية الجانب، التي تطرح بوصفها حقائق لا تقبل الجدل أو الحوار أو الدحض. إن التوتر أو العنف إزاء الآراء الأخرى المغايرة يبدو في بعض الأحيان تعبيرًا عن الاحتقانات الاجتماعية، وغياب تقاليد للحوار، والجدل، والخوف من المقاربات النقدية إزاء بعض ما يعتقده بعضهم بوصفها آراء حاملة لحقائق، وعدم إدراك أن حقائقهم هذه لا تعدو أن تكون نسبية، وقابلة للنقد، أو الرفض والتجاوز في مجال المناظرة والجدل مع حقائق نسبية أخرى تملك من الأسباب والحجج ما يسمح بقبولها نقديًا في مقابل أخرى لا تمتلك من القوة والأسباب للأخذ بها.

هذا الغياب لثقافة الحوار يبدو في الحياة الدينية، وفي المجال العام السياسي على نحو ما نشهد في عديد من البلدان العربية. في الحياة الدينية العربية لا نكاد نرى تعبيرات دينية عن بعض الأقليات المذهبية داخل ديانة الأغلبية في بعض الدول، أو عن أديان ومذاهب الأقليات الدينية، إلا في بعض الدول والأنظمة السياسية الطائفية ومثالها لبنان. نستطيع أن نلاحظ أن تمذهب الأنظمة السياسية بات واضحًا، والحساسية تبدو معلنة إزاء بعض الأقليات المذهبية -كالشيعة- أيًا كانت أعدادهم ضمن التكوين السني الأكثري، أو بعض التوتر الشيعي إزاء السنة في العراق، أو في لبنان. بعض أسباب هذه الظاهرة يعود إلى ضعف الأواصر بين وحدات النظام العربي، وتمدد نفوذ بعض دول الجوار الجغرافي العربي إلى بعض الدول العربية لا سيما في المشرق العربي، من تركيا، وإيران، وإسرائيل، هذا النمط من التمدد للنفوذ من إيران وتركيا، بدا بوضوح في دعم تركيا لجماعة الإخوان المسلمين، وقطر، والسودان.

 من ناحية أخرى التمدد الإيراني في العراق بعد انهيار الدولة، والصياغة الأمريكية للنظام السياسي العراقي، ودعم إيران لحزب الله الذي تحول إلى لاعب إقليمي ما دون الدولة، ثم دعمها للحوثيين في اليمن، وكذلك مساندة المعارضة البحرينية إزاء الحكومة. من ناحية أخرى استمرار الصلف الإسرائيلي، ورفض قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة في أعقاب العدوان الإسرائيلي في يونيو 1967.

هذا النفوذ المتمدد لدول الجوار الجغرافي أدى إلى تمذهب الصراعات الإقليمية على أسس مذهبية شيعية وسنية، لا شك أنها ألقت بظلالها السلبية الكثيفة على العيش المشترك، والحوار بين المذاهب الإسلامية الرئيسة في المجتمعات العربية، الذي تحول إلى مصدر للاحتقانات المذهبية، ووصل الأمر إلى اعتبار الدول العربية السنية الكبرى أن التشيع يشكل مصدرًا من مصادر تهديد الأمن الداخلي، وربطهم بين الانتماء إلى المذهب الشيعي، وبين التمدد الإيراني الإقليمي.

هذا المتغير الإقليمي الجديد ألقى بظلاله القاتمة على بعض التقاليد التاريخية في الحوار السني / الشيعي الذي دار في مصر بين بعض مشايخ الأزهر وبين الشيخ القمي في التقريب بين المذاهب، لا سيما أن التقليد التاريخي المصري الديني والمذهبي السني اعتمد على العيش المشترك دون توتر أو نزاعات على نحو ما كان قائمًا في بلدان عربية أخرى.

هناك توترات دينية بين المكونات الدينية - الطائفية اللبنانية، تقود إلى الخلافات مع حزب الله من بعض الأطراف الحزبية الدينية أو المذهبية، مع تداخل بعض الأطراف الإقليمية في هذا الإطار. إن التباين في بعض السياقات الاجتماعية والسياسية والدينية والمذهبية بين بعض البلدان العربية وبعضها بعضًا، إلا أنها تشير إلى غياب أو وهن ثقافة الحوار عمومًا وفي المجال الديني على وجه الخصوص. السؤال الذي نطرحه هنا ما المقصود بثقافة الحوار ولماذا تغيب أو تضمر في حياتنا العربية؟ نقصد بثقافة الحوار مجموعة القيم والتقاليد واللغة والمصطلحات والآليات التي تدور حول الحوار أيًا كان مجاله وأطره سياسية أو ثقافية أو اجتماعية عمومًا، أو الحوار حول الاختلاف الديني والمذهبي أو القومي أو العرقي أو اللغوي في الدول المتعددة المكونات، أو الحوار حول الحق في الاختلاف والإقرار به، وعمومًا تكوين وبلورة القيم والمساحات المشتركة، ونقاط الخلاف، وكيفية إدارة الحوار بين الرؤى والفاعلين المختلفين على نحو سلمي دون قسر أو إرغام واستخدام للعنف أو الترهيب. ثمة عديد الأسباب وراء غياب أو ضعف ثقافة الحوار في حياتنا السياسية والدينية العربية، يأتي على رأسها ما يلي:

  • سيطرة بعض العقائد والقيم الدينية والمذهبية الأحادية التي تذهب إلى نفي الآخر، وشيطنته وتنسب إليه "الشرور"، والمخاطر على الذات. يبدو "نفي الآخر" هو جزء من محاولات بعضهم بناء الأسوار حول الذات، وغالبًا ما يلجأ هؤلاء إلى هذه الآلية -بعض المنظرين الأيديولوجيين المتشددين أو بعض رجال الدين المتطرفين- للسيطرة على الأتباع في إطار تمجيد الذات الدينية أو الأيديولوجية ونسبة الفضائل والمزايا إليها، والميلُ إلى عزل الآخر، والحط من شأنه.
  • هيمنة النظم الشمولية وأيديولوجياتها العنيفة التي تقوم على إقصاء الاتجاهات الأخرى التي يتم وصفها بأنها معادية.
  • القيود المفروضة على الحريات العامة، لا سيما الحرية الأم، وهي حرية الرأي والتعبير ومعها حرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية. لا شك أن القيود على حرية الرأي تؤدي إلى قمع التعددية الفكرية والسياسية، وكبح الآراء المخالفة والمغايرة للرأي السلطوي المسيطر، ومن ثم تأثيم الحق في الاختلاف. من ناحية أخرى فرض القيود على الحرية الدينية والتعددية في إطارها -اعتقادًا وممارسة لها ولشعائرها- يؤدي إلى استبعادات وإقصاءات واقعية لبعض الأديان والمذاهب، ومن ثم لجزء من حيوية التعدد الديني والمذهبي في إطار العيش المشترك.

إن كل المؤشرات تشير إلى أن الأزمات والاحتقانات المذهبية والدينية والسياسية هي أبرز ملامح أزمة ثقافة الحوار، لا سيما لأزمة التحول الديمقراطي في المنطقة العربية قبل وبعد ما سمي مجازًا بالربيع العربي، ويعود ذلك إلى عدم تبلور وتجذر الجوانب المؤسسية للتعبير والتمثيل السياسي للاتجاهات السياسية والفكرية المختلفة، في أشكال حزبية أو جمعيات أو نواد تسهم في تأسيس ثقافة الحوار وفي بلورة هذه الاتجاهات لذاتها وأطروحاتها وأفكارها إزاء الاتجاهات الأخرى في شكل برامج سياسية تتناول القضايا الأساسية للتطور السياسي والديمقراطي في البلاد.

إن الهشاشة المؤسسية للحوار في المجتمعات العربية لا تعني غياب تجارب الحوار لا سيما الديني الإسلامي - المسيحي، وعلى الرغم من بعض الجهود المخلصة في هذا المجال فإنها لم تتطور إلى آفاق متقدمة، إذ إنها تدور في نطاق إعادة إنتاج للمقدمات الأولية للحوار في عمومياته وحول أسس وقواعد العيش المشترك -وفق التعبير الشائع لبنانيًا- وحول بعض المواقف المشتركة لبعض المثقفين ورجال الدين الإسلاميين والمسيحيين إزاء قضايا وطنية مشتركة، أو تجاه بعض المشكلات الطائفية التي تثور بين الحين والآخر.

يبدو لي أن هذا النمط من الحوارات حول بعض المواقف الأولية لم يؤد إلا إلى إحراز بعض التوافقات الأولية، ومن ثم لم تتجاوزها إلى مناقشة في العمق إلا قليلاً حول القيم المشتركة بين الإسلام والمسيحية من منظورات فقهية ولاهوتية تجديدية، ومن ثم لم تتقدم العمليات الحوارية إلى مناطق التوتر، أو الخلاف لا سيما أن غالب المتحاورين من رجال الفقه الإسلامي واللاهوت المسيحي. وبدا لي من بعض المشاركات الحوارية أن بعض المشاركين لا يعرفون الديانة الأخرى إلا من خلال دينهم وإيمانهم، أو من الصور الذهنية المسبقة حول الديانة الأخرى، ويدخل فيها الصورة الدينية المستمدة من الديانة إزاء الديانة الأخرى، والموروثات الفقهية، أو اللاهوتية أو المرويات بل والثقافة الدينية الشعبية لدى بعضهم، تتداخل هذه المصادر المختلفة لتشكل الصور الذهنية عن الديانة الأخرى، وعادة ما تنطوي على بعض المثالب التي تنتج الحواجز النفسية والإدراكية من ديانة إزاء الأخرى.

من ثم يغيب عن بعض المشاركين في الحوارات الدينية بل والمذهبية معرفة خريطة وتاريخ التركيبات المذهبية ومدارسها داخل المذاهب المختلفة، ناهيك بمعرفة الديانة وعقائدها وطقوسها وتاريخها من داخلها، من ناحية أخرى تحول الحوار الديني إلى دائرة شبه مغلقة بين محترفين للحوار، ومن ثم لا يحدث تجديد بين دوائر الحوار وأطرافه وقضاياه ومن ثم عدم تجدده الجيلي، بدخول أطراف شابة إلى ساحته تضفي عليه الحيوية وتطرح قضايا راهنة أو مستقبلية في إطاره. من هنا دارت الحوارات الدينية في دوائر شبه مغلقة، ولم تتعدَّ آثارها الإيجابية إلا قليلاً في إطار بعض المثقفين ورجال الدين من الطرفين الإسلامي والمسيحي، ومن ثم لم تشمل دوائر أوسع نسبيًا. الحوارات الدينية الإسلامية - المسيحية تمثل ضرورة عربية ومصرية في إطار التسامح وقبول الآخر والحق في الاختلاف، لا سيما حول القيم الدينية المشتركة والحق في المساواة والمواطنة وعدم التمييز بين المواطنين على أي أساس مائز فيما بين بعضهم بعضًا.