ألاعيب الثورة المضادة في السودان

تفسر أربع محاولات إنقلابية على المجلس العسكري الانتقالي في غضون شهرين جزءا من المشهد القاتم في السودان.

احتاجت مصر بضعة سنوات للتخلص من إرث حكم الإخوان لمدة عام واحد فقط، فما هو الوقت الذي يحتاجه السودان للتخلص من فترة امتدت ثلاثين عاما من هيمنة الحركة الإسلامية على السلطة، ونشر عناصرها في كثير من مفاصل الدولة؟

يرسم طرح السؤال وطريقة الإجابة عليه الخطوط العريضة التي يسير عليها السودان حاليا، وما تواجهه قوى الثورة من احتجاجات مضادة. فقد تمكن الرئيس المعزول عمر حسن البشير من القبض على زمام السلطة هو وجماعته سنوات طويلة، وحرص على زرع الكوادر المنتمية للحركة الإسلامية في المؤسسات العامة والخاصة، وأنشأ العديد من الأذرع العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، كي يفكر ألف مرة من يريدون حكم البلاد بعيدا عنه.

يعيدنا هذا التقدير إلى الخطاب الذي تبنته جماعة الإخوان المسلمين في مصر، عندما جرى عزل الرئيس محمد مرسي بموجب ثورة شعبية حاشدة، وقتها ربط بعض قادة الجماعة بين عودتهم للحكم وبين توفير الأمن والاستقرار في سيناء. الأمر الذي واجهته القوات المسلحة بحسم ورفض للابتزاز، وخاضت معركة طويلة مع المتطرفين والإرهابيين.

أعتقد أن المجلس العسكري في السودان يواجه معركة شبيهة بما حدث في مصر، ويتعرض لضغوط عنيفة لحضه على الاستسلام وإعلان الولاء لفلول النظام السابق، وفض العملية السياسية التي يخوضها بالتعاون مع تحالف الحرية والتغيير وعدم الانتصار للثورة التي أجمع المشاركون فيها على التخلص تماما من حكم البشير، وتجاهل تقويض الأحزاب المحسوبة عليه في الحياة السياسية والسماح بأي دور للمنتمين إليه في الجيش.

تفسر أربع محاولات إنقلابية على المجلس العسكري الانتقالي في غضون شهرين، جزءا من المشهد القاتم في السودان. ويعبر التعثر الظاهر الذي تواجهه المفاوضات مع تحالف الحرية والتغيير عن جزء آخر في الصورة الرمادية العامة. فكلما طوى الطرفان صفحة من الخلافات السياسية فتحت أخرى مليئة بالمطبات، تفرض عليهما أو كلاهما إعادة النظر في بعض المواقف، ما يؤثر على مسار الحوارات الجادة.

نجحت اللقاءات التي عقدها الطرفان في التوصل إلى صيغة اتفاق على الإعلان السياسي منذ أسبوعين، وشرعا في الاستعداد للانتهاء من مشروع الإعلان الدستوري كحلقة مهمة في ترتيبات المرحلة الانتقالية، حتى جاءت أحداث الأُبيّض في شمال كردفان، يوم الاثنين الماضي، لتخيم بظلالها السلبية على المفاوضات، حيث راح ضحيتها نحو ستة من المواطنين بعد اشتباكات مفتعلة بين تلاميذ وقوات الدعم السريع في المدنية.

ولم يتوقف الانتقام من قوات الدعم السريع على أيدي فلول النظام السابق، ويعملون على تكريس صورة ذهنية سلبية لها في عقل ووجدان المواطنين، فقد تحولت إلى رأس الحربة المطلوب قطعها، عقابا على انحيازها مبكرا لقوى الثورة، ونجاحها في ضبط الكثير من الأمور في الشارع. كما أن غالبية منتسبيها ليسوا من خريجي الكلية الحربية، بالتالي من السهولة أن تصبح مدخلا لتأجيج الخلافات في صفوف المؤسسة العسكرية.

يعتاد السودانيون على الحوارات والاجتماعات والندوات، ويجدون لذة في المناقشات السياسية، ولا ضير في امتدادها لفترات زمنية طويلة وعلى استعداد لدخول العديد من الجولات، لكنهم يبغضون الدم وروائحه، وعندما يسيل تتعطل الحياة السياسية وتتقدم السرديات الإنسانية. وهو ما يعرفه جيدا من خططوا وأقدموا على ارتكاب مجزرة هنا أو هناك.

احتاجت المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير حوالي شهر، لتبدأ مرة أخرى من مرحلة الصفر، بعد توقفها بسبب عملية فض الاعتصام أمام مقر وزارة الدفاع في الخرطوم بالقوة الأمنية وراح ضحيتها العشرات من المواطنين يوم 3 يونيو الماضي، ولا تزال ظلالها مستمرة، ولا يتوقف التذكير بها عند بعض المنعطفات السياسية. وبات التباين حول نتائج التحقيق في ملابسات فض الاعتصام وسيلة للخلافات المستمرة.

وقد يحتاج الأمر المزيد من الوقت لتجاوز مذبحة شمال كردفان، والتي يبدو أن زمانها ومكانها اختيرا بعناية لإحداث فتنة جديدة بين المجلس العسكري والحرية والتغيير. حيث وقعت قبل ساعات من استئناف المفاوضات بينهما، وفي ظل أجواء متفائلة تشير إلى زيادة مساحة التفاهم بين الطرفين على قاعدة القواسم والمشتركة والتنازلات المتبادلة للخروج من الأزمة.

ويرمز حدوثها في واحدة من الأقاليم القلقة أو القريبة منها إلى أن التفاهمات بين تحالف الحرية والتغيير والجبهة الثورية لن تصمد أمام الرياح السياسية والأمنية العاتية. فالجبهة تضم تحت جناحيها الفصائل المسلحة العاملة في جنوب كردفان ودارفور: الحركة الشعبية- قطاع الشمال، وحركة تحرير السودان- جناح مني أركو ميناوي، وحركة العدل والمساواة، وتطالب بمنح أولوية قصوى للسلام الشامل، وهو ما وعد به التحالف ولم ينكره المجلس العسكري، وجرى تضمينه كمبدأ أساسي في الإعلان السياسي خلال الأشهر الستة الأولى من المرحلة الانتقالية.

لدى عناصر الثورة المضادة أدوات متعددة وفعالة للتنغيص بها على القوى الوطنية، وتملك الكثير من القدرات العسكرية التي تمكنها من تخريب العملية السياسية. وبعد أن فقدت رهاناتها على نجاح جيوبها في استرداد السلطة مرة أخرى، تسعى نحو خلط الأوراق، وإجبار جميع الأطراف على إعادة النظر في مواقفها السلبية من أحزاب النظام السابق، وتصميمهم على معاقبة من تورطوا في جرائم فساد اقتصادي وسياسي وأمني خلال العقود الثلاثة المنصرمة.

أخفقت الحركة الإسلامية في توظيف جيوبها في الجيش السوداني، ووجدت أن المسألة أشد تعقيدا، حيث انتبهت قيادة المجلس العسكري إلى الدور الخطير الذي تلعبه شخصيات إسلامية للإنقلاب عليه، وبدأ مرحلة جادة من التصفية، والتخلص من الأسماء المشكوك في ولاءاتها الوطنية. وفشلت الحركة أيضا في شق تحالف الحرية والتغيير، أو استقطاب قوى سياسية تعمل لصالحها وتتعاطف معها.

يبدو أنها سوف تسرع من خطوات استفزازها باللجوء إلى مزيد من العمليات المسلحة، اعتمادا على صف طويل من الميلشيات وكتائب الظل التي شكلها البشير، ومنحها شرعية قانونية، ولم يتم الاقتراب منها والعمل على تفكيكها بعد الثورة. ما يمثل خطرا جسيما على حياة المواطنين، ويفرض على المجلس العسكري تغيير تكتيكاته وأولوياته. وقد تؤدي ألاعيب الثورة المضادة إلى نفاد صبر قوى الحرية والتغيير وتتزايد سخونة الأحداث.