ألم اسمه الهجرة

قال بن علي كلمته وهاجر. كان علينا أن نلحق به أو نبقى في مكاننا لنصنع التاريخ. ليس المطلوب إغلاق ملف الهجرة ولكن المطلوب أن نفهم ألما اسمه الهجرة.

بداية عام 2011 هاجر الرئيس التونسي زين العابدين بن علي إلى المملكة العربية السعودية. هل هاجر من تلقاء نفسه أم أنه هُجر عنوة؟ ذلك سؤال بقي من غير إجابة مؤكدة. من المتوقع أن يكون الرجل قد رغب في الحصول على اللجوء في فرنسا غير أن طلبه قوبل بالرفض.

أحسن ما فعله بن علي عبر ربع القرن الذي حكم فيه بلاد الزيتون أنه هاجر. سيسجل له التاريخ أنه انضم إلى سلسلة المهاجرين التونسيين الذين عاد بعضهم بعد هجرته ليحكم أما البعض الآخر فقد شعر أن المنفى هو قدره الذي لن ينجو منه. أما مَن حكم فإنه اليوم وبعد عشر سنوات من فوضى لم تثمر إلا عدما إما يقبع في السجن في انتظار أن يُنفى مرة ثانية وإما أن ينتظر حائرا أن يُفك عنه قيد الشبهات ويهاجر مقتديا بالزعيم الذي خلع نفسه قبل أن يخلعه الشعب.

فكرة أن يهاجر رئيس هي في الحقيقة فكرة مُستحدثة عربيا. كان جعفر النميري قد تم خلعه وهو خارج السودان أما علي عبدالله صالح فإن خلعه سلم اليمن إلى حرب لا تزال قائمة حتى اليوم.

 فيما مضى كانت الشعوب هي التي تهاجر. ذلك ما تعارفنا عليه. لا تزال الشعوب تهاجر. حركة شعب تبدو أخف من حركة رجل واحد. كان الرئيس العراقي الراحل صدام حسين يكرر بين حين وآخر "مَن لا يعجبه الوضع فليرحل". لم يكن أول من قال ذلك. سبقه الكثيرون. أتمنى أن لا يلحق به أحد، فالعالم تغير ولكن خطوط الهجرة اتسعت وتنوعت أساليبها غير أن الموت الذي يهرب منه المهاجرون سيلاقيهم في أول الطريق أو منتصفه.

ربما حقد الرئيس السوري بشار الأسد على المهاجرين السوريين الذين مات المئات منهم في البحر وضاع الآلاف بين الجزر التي يجهلون أسماءها ولا الدول التي هي جزء منها. كان البديل أن يهاجر هو. أليس هناك خيار ثالث؟ في الحرب تنعدم الخيارات. كان في إمكان الأسد أن يوقف هجرة شعبه قبل أن تدخل التنظيمات الإرهابية طرفا في صراع سياسي، تحول إلى حرب عبثية كان من الممكن تفاديها من غير هجرة ولا مهاجرين.

"العتب عليهم" قال لي أحد السوريين تعليقا على غرق قارب مطاطي قرب السواحل اللبنانية. قلت له "العتب علينا" ولكن مَن نحن بعد أن صرنا فرقا يقاتل بعضها البعض الآخر من أجل لا شيء. ذلك اللاشيء الذي كان اسمه وطنا فتحول إلى كهوف وسراديب وأقبية وممرات خفية ومتاهات. مَن يُقيم في الداخل يخون مَن آثر البقاء في بيته. والعكس يحدث أيضا ولكن الطرفين كانا دائما على خطأ.

في الماضي كان حلم الهجرة فرديا فإذا به يتحول إلى سيرة شعوب. يقول لك "تجد الكثير من العراقيين هنا في لندن" وهو يقصد أكثر من نصف مليون عراقي بينهم المهندسون والأطباء والمفكرون والشعراء وباعة الخضروات ونهازو الفرص وصائدو القنافذ. "ولكن ماذا أفعل بالعراقيين؟" تسأله فلا يجيبك. هل كوني مهاجرا يجعلني جزءا من كل سبق لي وإن انفصلت عنه؟

المهاجرون حكايات. كل مهاجر هو حكاية. دوائر الهجرة في دول اللجوء تملك ملفات تغص بالأكاذيب. فضيلة زين العابدين بن علي أنه لم يفتح ملفا لهجرته. لقد مضى إلى قدره ومات في السعودية عام 2019. ولكن تونس تتصدر اليوم مشكلة الهجرة الأفريقية إلى أوروبا التي تسعى إلى الظهور كما لو أنها ضحية. لن تتمكن تونس من الدفاع عن نفسها وهي الضائعة بين متاهتها السياسية وملف المهاجرين الأفارقة. هل على تونس أن تدفع ثمن خطأ لم ترتكبه؟

أهدت تونس العالم العربي ربيعا ملغوما حين قدمت ابنها البوعزيزي نموذجا لمناضل سلبي، خنق صرخته زمنا طويلا وحين أراد أن يتحرر من عجزه أشعل النار بجسده.  ولكن تونس لا تزال متأهبة للهجرة. ما من شاب من شبابها إلا ويفكر في الهجرة. يتكلم التونسيون فيما بينهم بالفرنسية، أليس ذلك نوع من الهجرة؟ لا أحد يفكر في هويته. ليست تونس تركيا التي تعاملت مع المشكلة بطريقة أكثر ذكاء وخبثا ودهاء. قال بن علي كلمته وهاجر. كان علينا أن نلحق به أو نبقى في مكاننا لنصنع التاريخ. ليس المطلوب إغلاق ملف الهجرة ولكن المطلوب أن نفهم ألما اسمه الهجرة.