أمة في النظارة وشعب في الانتظار

ليس عصر العولمة ما نال من الأمة اللبنانية، بل عصر القبلية.
منذ ولادة دولة لبنان الكبير ونحن في غرفة الانتظار بل في "النظارة"
لا ندعو إلى مقاومة حزب الله عسكريا بل إلى مواجهة مشروعه الإيراني بمشروع لبناني سياسي ودستوري

المؤمنون بــــ"لبنان الكبير"، وهم من جميع الطوائف والمناطق، ظنوا أنهم أنجزوا مهمتهم مع إعلان إنشاء الدولة وانتزاع الاستقلال وإقرار "اتفاق الطائف". وتوقعوا أن تكون المحن والحروب التي مرت على اللبنانيين كافية ليستخلصوا العبر ويقتنعوا بكيان لبنان وخصوصيته وحياده وهويته. لكن الـملحدين بلبنان، المؤمنين بــمشاريع دينية وقومية وانفصالية، وهم من جميع الطوائف والمناطق أيضا، شرعوا بتدميره منذ لحظة تأسيسه، ولم تنفع لثنيهم كل التنازلات والتسويات السياسية والتعديلات الدستورية. يعطلون الوحدة المركزية المرتكزة على دستوري 1943 و"الطائف"، ويرفضون اللامركزية الضيقة والموسعة والفدرالية. هذا النزق الدستوري المتعمد أودى بهم إلى اعتبار اللامركزية كما الفدرالية تقسيما، بغية منع تطوير صيغة "لبنان الكبير" ورفدها بعمر جديد، ورغبة السيطرة على كامل لبنان والعيش على حساب الآخرين. هؤلاء، يحولون الاعتراف بلبنان وطنا نهائيا إلى نهاية لبنان الوطن.

هذا المنحى الإلغائي، السائد في السنوات الأخيرة، يلتقي مع ضعف العناصر التي تكون وحدة الأمة اللبنانية. حين تنشأ الدولة/الأمة تستعيد تاريخها وتحدق إلى المستقبل، بيد أن اللبنانيين استعادوا تواريخ متنافرة وحدقوا إلى مستقبلات مضادة. فلا تاريخ الأمة جمعهم ولا قوانين الدولة وحدتهم. وها لبنان اليوم يشهد تهاوي أسس نشوئه من خلال ما يلي: 1) تبادل انتهاك السيادة والاستقلال بين دول أجنبية وقوى محلية. 2) فلتان الحدود الدولية لتطبيع اللبنانيين مع فكرة تعديل الكيان. 3) تغيير التوازن الديمغرافي بالحروب والتهجير والهجرة والتجنيس والدمج والتوطين. 4) التباين بين المكونات اللبنانية حول التاريخ المشترك وتعذر الاتفاق على كتاب تاريخ. لا توجد أمة ليس لديها كتاب تاريخ. 5) انفضاض عقد التماسك الاجتماعي والتباعد بين أنماط الحياة والثقافات. 6) انفصام الشعور بالانتماء إلى وجدان وطني واحد وقضية واحدة ومستقبل واحد. 7) تفشي الولاءات الخارجية المناقضة مصلحة لبنان والمتناقضة في ما بينها. 8) تحول الأديان من مجموعة قيم روحية ترتل لحن التعددية إلى مذاهب انحرفت عن مدارها الديني وعاثت بالأمة تفرقة. 9) انهيار الدولة اللبنانية الجامعة التي هي الإطار الدستوري والقانوني والمؤسساتي للأمة والوطن والكيان. فالأمة اللبنانية، بعصبها وحضارتها وجبلها ومدائنها وشعبها الأصيل، سبقت نشوء الدولة اللبنانية وحضرت لها.

ليس عصر العولمة ما نال من الأمة اللبنانية، بل عصر القبلية. الباحث عن تاريخنا يكتشف انقساماتنا التي لا تزال تنزف، إذ كلما "داوينا جرحا سال جرح"، وكلما اهتدى مكون ضل آخر. هذا الواقع السيئ هو ما يدفع باللبنانيين المؤمنين بلبنان إلى البحث في حلول بديلة عن الدولة المركزية. وبقدر ما ينتمي هؤلاء إلى مختلف المكونات اللبنانية، تنمو اللامركزية بسلاسة وتسري كالماء السلسبيل. في المبدأ، يفترض بجميع الحلول الدستورية أن تكون جيدة للبنان إذا ارتكزت في فلسفتها التطبيقية على الديمقراطية والولاء والحياد والميثاقية والمساواة والتشريع المدني واحترام الخصوصيات الحضارية. لكن يوجد في لبنان من يشككون في لبنان بحد ذاته، ويريدون "قبعه". أولئك لا يزالون في مرحلة الهدم ولم يبلغوا، بعد، مرحلة مناقشة الحلول. الأخطر من ذلك أن "الحل/النظام" الذي تعلل هذه الجماعات نفسها بإقامته في لبنان متطفل على لبنان وعلى العصر وحضارة الإنسان والسلام الإقليمي. هو نظام ساقط بالولادة، حتى لو أذعن له اللبنانيون، ولن يذعنوا له.

لذلك حري باللبنانيين أن يهزموا هذا النظام قبل أن يولد، ويبادروا إلى طرح نظام جديد يتجانس مع التعددية المجتمعية من دون انتظار التطورات الإقليمية والدولية التي يـختلف توقيتها عن توقيتنا. مبدأ انتظار المنتظر أو اللامنتظر من دون مبادرة أو مقاومة أضر بلبنان. منذ ولادة دولة لبنان الكبير ونحن في غرفة الانتظار، بل في "النظارة". ننتظر الظروف والتطورات والمتغيرات. ينصحنا الأصدقاء - وأي أصدقاء! - أن نصبر ريثما تبرز معطيات جديدة. ومن قال إن هذه المعطيات ستكون لمصلحتنا؟ ومن يكفل أننا سنكون بعد أحياء حين تحل هذه المعطيات؟ ومن يضمن أن الأصدقاء لن يساوموا علينا كما جرت العادة؟

إذا الشعوب أرادت أن تحفظ وجودها يجب أن تناضل لا أن تنتظر على قارعة الأمم. انتظرنا خروج الفرنسي فبقي ربع قرن. انتظرنا عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم فما زالوا هنا منذ أربع وسبعين سنة. انتظرنا انسحاب الجيش السوري فجثم ثلاثين سنة. واليوم ننتظر مصير سلاح حزب الله منذ أربعين سنة. إن الحالات التي انتصرنا فيها هي تلك التي قاومنا فيها الانتظار وواجهنا أخصامنا وأعداءنا. لو لم تقاوم المقاومة اللبنانية المنظمات الفلسطينية لكانت منظمة التحرير تحكم الآن نصف لبنان. ولو لم تقاوم المقاومة اللبنانية أيضا جيش الاحتلال السوري لما كان بدأ ينسحب سنة 1982 ثم جمده بعد اغتيال الرئيس بشير الجميل إلى حين انتفاضة 2005. ولو لم يقاوم حزب الله وأمل وآخرون الاحتلال الإسرائيلي لربما ظل في الجنوب إلى حين عقد اتفاق سلام.

هذه الأمثلة التاريخية ليست بالطبع دعوة إلى مقاومة حزب الله عسكريا، بل إلى مواجهة مشروعه الإيراني الديني والعسكري بمشروع لبناني سياسي ودستوري يـحــيــي نبض الدولة والأمة. يستحيل على أي مشروع لبناني أن يرى النور في إطار وحدة لبنان مع بقاء سلاح حزب الله أو أي سلاح آخر خارج الشرعية. وخلافا لما يظن حزب الله، لسنا مختلفين معه حول إيران والسعودية وأميركا وسوريا وإسرائيل، بل حول لبنان. فما إن نـتفق وإياه على هوية لبنان ونظامه ودوره ومبرر نشوئه في هذا الشرق، حتى نتفق حكما وإياه على سلاحه في كنف الدولة. لكن المشكلة أن سلاح حزب الله ليس جزءا من قوته في لبنان لكي تعوض الدولة اللبنانية عليه تسليم هذا السلاح، بل هو جزء من المشروع الإيراني في لبنان والشرق الأوسط. والذين يراهنون على الوقت فقط، ويرفضون الحلول الدستورية البديلة عن المركزية، يخدمون ـــ ربما من دون أن يدروا ـــ حزب الله ويقضون على ما بقي من عناصر الدولة والوطن.

إن اختلاف اللبنانيين اليوم على الحلول الوطنية والدستورية والحضارية يفتح من جديد جروحات أزماتهم التاريخية. ولا أظن أن جميع مكونات لبنان بلغت مرحلة المناعة الجماعية، فبعضها يفضل انتظار العدوى على أخذ اللقاح. لذلك: لهم عدواهم ولنا لقاحنا.