"أوراق من يوميات حوذي" سيرية رشيقة

رحمن خضير عباس يرسم لوحة للوجع العراقي، فأبدع في الاشتغال عليها، وتلوينها بآلام الإنسان العراقي وآماله وإحباطاته.
وأنت تختض مع حركة السرد واهتزازات عربته، مسرعا تارة وتارة هادئ المسير وبطيء
القاص يرسم بفرشاته ملامح من سيرته

وأنت تقرأ هذه المجموعة القصصية السيرية الرشيقة، تشعر وكأنك تجلس إلى جانب حوذي يقود عربته ويسوق حصاني العربة، على أرض ممهدة حيناً وحيناً وسط مطبات ودرب وعر، وأنت تختض مع حركة السرد واهتزازات عربته، مسرعا تارة وتارة هادئ المسير وبطيء، هكذا يأخذك القاص رحمن خضير عباس وهو يرسم بفرشاته ملامح من سيرته، أو يسرد عليك أوراقا من يومياته، وهل يتيسر لحوذي متنقل باهتزازات عربته بين المدن ومتاهاتها، أن يتوسع ويتمهل بكتاباته؟
ثمان قصص شغلت 74 صفحة وهي كما في الكتاب (التسلسل أ): أسوار، اللوحة، المقامة الكاريكاتيرية، النهر، أوراق من يوميات حوذي، شقة في منعطف، جذوع ملت الوقوف، مدن ومتاهات.
ولم أدرك السبب أو المنهج الذي جعل المؤلف يرتبها بهذا التسلسل المختلف عن التراتبية الزمنية للأحداث في القصص ذاتها، والتي لو أردنا ترتيبها وفقا لذلك لكانت كالآتي (التسلسل ب): النهر، جذوع ملت الوقوف، شقة في منعطف، مدن ومتاهات، أسوار، أوراق من يوميات حوذي، المقامة الكاريكتيرية، اللوحة. 
إذ تنقسم قصص المجموعة إلى قسمين، تفصل بينهما القصة الرابعة، وفقا للتسلسل ب والأخيرة وفقا لتسلسل الكاتب (مدن ومتاهات ص 73). إذ تتناول القصص الثلاث الأولى، وفقا للتسلسل (ب) سيرة الراوي أو المروي عنه، ولنسمه الحوذي في وطنه العراق، ففي قصة النهر (ص 35) نرى مدينته الصغيرة باسمها القديم سويج الدجه، أو ناحية الغراف كما سميت فيما بعد، حيث يستحضر بذكرياته ألعاب الطفولة والصبا (الطرام والسيمة) وكيف كان الصبية يحاولون مجاراة الباص الخشبية التي يقودها بسرعة السائق الهندي سبتر خان؟ 

short story
إلى ما وراء المحيط 

إلى ما وراء المحيط  ويتذكر خوفهم من (دودة الزعيم) وكلب النهر الذي أغرق السائق أحمد، ويتذكر نهر المدينة الذي جفّ، وصرخة حجي إسماعيل الذي رفض ذاك الجفاف والعطش ولامبالاة الآخرين وخنوعهم.
وفي القصة الثانية (جذوع ملّت الوقوف) يتحدث بسرد ووصف رائعين، عن مدينة الفاو في أقصى الجنوب العراقي، حيث نهايات شط العرب وسواحل الخليج العربي، هناك كان الراوي مدرساً وكتب يومياته باختيار مرزوق العبد وعربانته رمزا للمدينة، وصولاً إلى حرب إيران التي قضت على ذاك المجتمع الطيب وتلك المدينة الجميلة وبساتينها.
وفي قصة (شقة في منعطف) نجد الراوي في مركز مدينة البصرة، حيث يرسم لنا تخطيطات سريعة لأواخر أيام التحالف بين الشيوعيين ونظام البعث، ومغادرة الراوي للبصرة متجهاً إلى بغداد، لكنه لا يكتفي بذلك، بل يطلق وخزة حادة في جنب الوسط الثقافي، حين يصف تناقضات المثقفين وخاصة حديثهم عن حقوق المرأة من جهة، واستغلالهم لها من جهة أخرى بالوحل الثقافي.
بينما تستعرض قصة (مدن ومتاهات ص 73) مدناً عديدة مر بها الحوذي في ترحالاته وغربيته (الشطرة ثم الرحيل – دمشق- بنغازي- سرت – طرابلس – الجزائر – عزازقة – وجدة- فاس – الرباط وسلا – تارودانت...). 
ولا تمر هذه الرحالات من اهتزازات نفسية عميقة، منها أمام الوجوه الشريدة لا يفتح الناس أبوابهم (سعدي يوسف)، ومنها أغنية الراديو (يالرايح وين مسافر) ،وأوجاع تذكر الوطن ومدينته الناصرية (للناصرية تعطش وشربك ماي باثنين إيديا)، وما تعنيه هذه الأغاني والاستذكارات من قساوة الغربة ووجع الحنين. 
ولعل من الجميل التوقف عند ضربات فرشاة هذا السارد الجميل، أو إشاراته التي ستمر خفية لمن لا يتعمق بدلالات الأسماء والأماكن التي يذكرها، والاشارات التي ينثرها بين ثنايا نصوصه، فما كانت فاس المغربية إلا مدينة بناها لاجئ هارب من بطش السلطة العراقية العباسية، وهو إدريس حفيد الإمام الحسن عليه السلام، وهو الذي هرب ناجياً بنفسه بعد أن ثار أخواه محمد في المدينة المنورة وإبراهيم في البصرة وقتلا، وفي العراق ضريح أبيه عبدالله المحض، وكثير من أفراد أسرته، فثمة رابط روحي عميق بين المهاجر المغترب وبين روح الأدارسة في مدينة فاس، حتى أنهم بنوا مدينة ثانية لهم قريبة من فاس وسموها البصرة، وإلى فاس لجأ ابن الخطيب الشاعر والوزير والمؤرخ الكبير، كما لجأ إليها المهاجر العراقي ولم يدعوه وشأنه، حتى لاحقوه فيها بوشاية من تلميذه الشاعر ابن زمرك، فحوكم وقتل وأحرق جثمانه وكتبه في جريمة تكشف عن همجية السلطة، وبشاعة وعقوق تلميذ لأستاذه في تدنٍ قبيح للقيم والأخلاق، خاصة وإن هذا التلميذ المجرم كان شاعراً!
فهنا الإدانة الخفية غير موجهة للسلطة الغاشمة فحسب، وإنما للمثقف والأديب البوق الخانع والتابع، كل هذه الدلالات يستحضرها القارئ، ثم ينتقل إلى أجمل قصص المجموعة وعروسها بامتياز، (ولعل هذا هو سبب افتتاح المجموعة بها من قبل الكاتب) وهي قصة (أسوار)، وأسميها تارودانت، حيث انتقل السي العراقي إلى هناك للتدريس، والتقى بسحرها وجمالها حتى انهارت أسوارها أمامه بالأمطار، فغادرها نهائياً إلى ما وراء المحيط حيث كندا وأوتاوا عاصمتها.
ومن يومياته عن مغتربه الكندي، يقتطف لنا الحوذي أو السي العراقي قصصه الأخرى (يوميات من أوراق حوذي / المقامة الكاريكتيرية / اللوحة)، ليرسم لنا لوحة للوجع العراقي، أبدع القاص رحمن خضير عباس في الاشتغال عليها، وتلوينها بآلام الإنسان العراقي وآماله وإحباطاته.