
إيران وتوسيع النفوذ في إفريقيا: يورانيوم النيجر في قلب صراع استراتيجي جديد
باريس - في مشهد دولي تتصاعد فيه المنافسة على الموارد الحيوية ومناطق النفوذ، تواصل طهران توسيع تحركاتها الدبلوماسية والأمنية في إفريقيا، متحدّية الضغوط الدولية المتزايدة بشأن ملفها النووي. الخطوة الأخيرة التي تمثلت في تقارب إيراني غير مسبوق مع النيجر، البلد الغني باليورانيوم والمفتوح على فراغ استراتيجي بعد تراجع الوجود الغربي، تؤشر على استراتيجية أكثر جرأة تتبعها طهران، تجمع بين التطلعات الأمنية والمصالح الاقتصادية، وتعكس إصراراً إيرانياً واضحاً على تجاوز القيود المفروضة على برنامجها النووي.
ففي تقرير نشرته مؤخرًا مجلة لوبوان الفرنسية، كُشف النقاب عن زيارة رفيعة المستوى قام بها وفد أمني إيراني إلى العاصمة النيجرية نيامي في مطلع مايو/أيار، برئاسة القائد العام لقوات الأمن الداخلي الإيراني، الجنرال أحمد رضا رادان. وقد تضمنت الزيارة، التي وُصفت بأنها "استثنائية"، توقيع مذكرة تفاهم أمنية تركّز على تبادل المعلومات وتدريب القوات النظامية وتطوير التعاون الاستخباراتي بين الجانبين.
هذه التطورات تأتي في وقت حساس تشهده منطقة الساحل الإفريقي، لا سيما بعد الانقلاب العسكري في النيجر في يوليو/تموز 2023، والذي أطاح بالحكومة المنتخبة وكرّس الجنرال عبدالرحمن تياني كحاكم فعلي للبلاد. الانقلاب أدّى إلى انسحاب القوات الفرنسية والأميركية، ما خلّف فراغاً استراتيجياً استغله عدد من اللاعبين الدوليين، وعلى رأسهم إيران، لإعادة تموضعهم في المنطقة.
وتحاول إيران استغلال هذا الفراغ لتعزيز حضورها في قلب إفريقيا، عبر استراتيجية تدمج الأبعاد الأمنية بالمصالح الاقتصادية. وتشير تقارير إلى أن طهران تنظر إلى النيجر ليس فقط كشريك أمني محتمل، بل أيضاً كمصدر استراتيجي مهم لليورانيوم، المعدن الذي يُعد حجر الأساس في برنامجها النووي، والذي يشكّل مصدر قلق دائم للوكالة الدولية للطاقة الذرية والدول الغربية.
ويشار الى أن إيران، التي تخضع لعقوبات دولية خانقة بسبب أنشطتها النووية، تسعى إلى تنويع مصادرها من خامات اليورانيوم، خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018. وفي هذا السياق، فإن النيجر، المصنفة سابع أكبر منتج عالمي لليورانيوم، تشكّل فرصة مغرية لطهران، في ظل انسحاب الشركات الغربية وتدهور العلاقات بين نيامي وباريس.

وتعزز هذا التوجه الإيراني خلال زيارة رئيس الوزراء النيجري، علي الأمين زين، إلى طهران في بداية عام 2024، حيث تم التوافق على سلسلة من التفاهمات غير المعلنة، يُعتقد أن من بينها صفقات محتملة لتوريد اليورانيوم. ووفقاً لمجلة لوبوان، فإن توقيع مذكرة التفاهم الأمنية في مايو يشكّل امتداداً مباشراً لتلك المشاورات.
وفي أعقاب الانقلاب، وجد نظام تياني نفسه في عزلة دولية متزايدة، مع تعليق معظم المساعدات الغربية وإجلاء البعثات العسكرية الأجنبية. ودفعت هذه القطيعة السلطات النيجرية إلى البحث عن شركاء جدد قادرين على دعم استقرار البلاد، عسكرياً واقتصادياً. وبينما لم ترقَ الشراكة مع موسكو إلى مستوى التوقعات، كما أشار "مرصد الساحل" في تحليله، فإن طهران برزت كخيار بديل يعرض دعماً أمنياً وتكنولوجياً دون شروط سياسية مشددة.
ولم يقتصر الاهتمام الإيراني على الجوانب الأمنية، بل شمل أيضاً دعم برامج الطائرات المسيّرة، مستغلة غياب القوات الأميركية التي كانت تدير قاعدة "أغاديز" الجوية، إحدى أهم مراكز تشغيل الدرونز في غرب إفريقيا. وفي الوقت الذي تحتفظ فيه النيجر باتفاقيات تعاون أمني مع دول كتركيا، فإن دخول إيران على هذا الخط يعكس احتدام التنافس الدولي على النفوذ في المنطقة.
ورغم أن التعاون الأمني هو ما يطفو على السطح، إلا أن ما يجذب طهران بشكل أساسي هو الوصول إلى احتياطات اليورانيوم النيجري. فبعد سنوات من المواجهة مع الغرب بشأن التخصيب، تسعى إيران إلى تأمين مصادر خام مستقلة تدعم قدرتها على الاستمرار في تطوير برنامجها النووي، حتى في ظل الرقابة الدولية.
النيجر، من جانبها، تعاني أزمة مالية خانقة منذ الانقلاب، نتيجة العقوبات وتراجع الاستثمارات الأجنبية، خصوصاً بعد توقف عمليات شركة "أورانو" الفرنسية، التي كانت تدير أبرز مناجم اليورانيوم. ويبدو أن السلطات الجديدة تنظر إلى التعاون مع إيران كفرصة لإعادة تنشيط هذا القطاع الحيوي، الذي كان يساهم بأكثر من 15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي قبل الانقلاب.
وما يجري في النيجر ليس سوى جزء من مشهد أوسع يشهده الساحل الإفريقي، الذي بات ساحة تنافس مستعر بين قوى دولية تتسابق على الموارد والنفوذ. وفي هذا السياق، تشكّل التحركات الإيرانية امتداداً لاستراتيجية قائمة على استغلال المناطق الرمادية والفراغات الجيوسياسية، في سبيل كسر العزلة وتثبيت الحضور خارج حدود الخليج.
ومع استمرار الضغط الدولي على طهران بشأن الملف النووي، فإن التوجه نحو النيجر يُظهر إصراراً إيرانياً على المضي قدماً في خطط التخصيب، حتى إن تطلّب الأمر تغيير جغرافيا الإمدادات. وفيما تبدو طهران مصممة على التحرك بأدوات براغماتية، فإن النيجر تقف عند مفترق طرق حاسم، وسط صراع محتدم قد يعيد رسم خرائط النفوذ في إفريقيا لعقود قادمة.