اخطانا.. فلنعترف ونصحّح

تم تبديد الانتفاضة العراقية الكبرى ويتربع الفاسدون والقتلة على سدة السلطة.

طبيعي ان يخطا المرء هنا او هناك، لكنّ غير الطبيعي هو عدم الاستفادة من اخطائه. وما ينطبق على الفرد ينطبق على الاحزاب والمنظمّات، بل وحتّى الشعوب. فأخطاء حزب او منظمّة او حتّى شعب ستستمر وتؤدي الى نتائج كارثيّة ما لم يستعيد ذلك الحزب او تلك المنظمّة او ذلك الشعب وعيه، ليس بنقد تلك الاخطاء فقط، بل العمل على تشخيصها وبحثه المستمر لتجاوزها في المراحل التالية من نشاطه ونضاله.

لقد كانت انتفاضة تشرين/اكتوبر العراقيّة حدثا كبيرا في تاريخ نضالات شعبنا. وعلى الرغم من عدم نجاحها في تغيير شكل اللوحة السياسية بالبلاد، الّا انّها تبقى خزينا ثوريا علينا تطويره وتغذيته بمزيد من طاقات الجماهير المتضرّرة للإسراع بإنقاذ البلاد من شرور المحاصصة الطائفية القومية، التي تكرّس هيمنتها وتمسك بيد من فولاذ على مقاليد السلطة يوما بعد اخر بل ساعة بعد ساعة.

حينما كانت الانتفاضة في عزّ عنفوانها، وحينما كانت الآمال معقودة على شابّات وشبّان رسموا خارطة وطنهم عاليا في السماء، وحينما كان "الطرف الثالث" يقتل ويغتال ويجرح ويطارد ويغتصب هؤلاء الشابّات والشبّان، ظهر استنتاج سياسي لدى العديد من القوى السياسية والكثير من المتابعين لما كان يجري وقتها، على انّ عراق ما قبل الانتفاضة هو ليس كما عراق ما بعد الانتفاضة، فهل تحققت تلك الامنية!؟

اثناء الانتفاضة وبعدها رُفعت العديد من الشعارات المركزية، منها تقديم قتلة المتظاهرين للعدالة، تغيير القوانين الانتخابية لتكون عادلة، مكافحة الفساد، تحقيق العدالة الاجتماعية، "نريد وطن" وغيرها. فهل تحقّق شعار واحد من تلك الشعارات التي ذهب ضحيتها المئات بين شهيد وجريح ومعاق ومختطف، لنقول من انّ عراق ما قبل الانتفاضة هو ليس عراق ما بعد الانتفاضة!؟

لم يتم لليوم تقديم القتلة وهم ميليشياويون على صلة بعواصم محليّة، للقضاء، بل على العكس فقد تمّ تكريم القتلة. امّا القوانين الانتخابية التي طالب المنتفضون ومعهم احزاب ديموقراطية ومنظمات مجتمع مدني بتعديلها لتكون اكثر عدلا، فقد ترجمته القوى التي قمعت الانتفاضة بقوانين فُصّلت على مقاساتها ومقاس ميليشياتها لتكون لها الاغلبية المريحة جدا في البرلمان، كونها تمتلك الاغلبية اساسا بعد تبادل ادوارها لتكون اغلبية سياسية في برلمان يحتله فاسدون. امّا محاربة الفساد، فقد ترجمته قوى القمع الى استمراره ليلْتَهم خزينة البلاد، وما سرقة القرن الّا احدى دلالات هذه القوى على استهتارها بدماء شهداء تشرين وشعبنا بشكل عام. والعدالة الاجتماعية عند اقطاب السلطة تعني توزيع الكعكة بين احزابها وليس بين المواطنين الذين يعيش ثلثهم تحت مستوى خط الفقر وفق احصاءات رسمية. ويبقى شعار "نريد وطن"، هو الشعار العصي على التنفيذ في ظل سلطات لا تعرف كتابة اسم وطن على سبورة في صف مدرسي بمدرسة خربة آيلة للسقوط.

اوضاع ما بعد الانتفاضة اسوأ من اوضاع ما قبل الانتفاضة، وهذه حقيقة يعرفها المنتفضون والشارع العراقي الذي يعيش ازمات مختلفة. وقولنا هذا ليس حالة من الياس على الرغم من انّ اليأس مبرر لتوفّر كل عناصره في الحياة العراقية على مختلف الصعد. انّ ضرب وطرد نوّاب منتخبين من قبل ميليشيات السلطة وتحت قبّة البرلمان، كي لا يصوّتوا ضدّ قانون سانت ليغو المعدّل والذي سيعدّل في كل دورة انتخابية ما يتيح لهيمنة قوى الفساد على السلطة، لا يعني استهتار وقمع احزاب السلطة وميليشياتها فقط، ولا ضعف قوى التغيير الديموقراطيّة فقط، ولا صمت جينين بلاسخارت التي يطلق عليها العراقيون تهكما كنية "ام فدك" ومؤسستها الاممية عن تجاوز السلطة على ابسط الحقوق الديموقراطية التي تعتقد المؤسسة الاممية من انها قائمة بالعراق، بل تعني استمرار حالة اليأس عند المواطنين وعزوفهم عن نضال عليهم خوضه من اجل تحقيق اهداف انتفاضة تشرين.

على القوى السياسية المؤمنة بالتغيير ان تتقدم هذه الجماهير اليائسة والباحثة عن حياة كريمة في وطن يتسّع للجميع، باصطفافها ووحدة برامجها وتجاوز خلافاتها ومناكفاتها وانانيتها. فالوقت ليس بصالح جماهير شعبنا وقوى الفساد ترسّخ مواقعها في السلطة. وهذه القوى اي الديموقراطية عليها دراسة الشارع العراقي دون عقد امال اكبر حجما من امكانياتها. فخسارة الانتخابات هذه المرّة او الحصول على نسب صغيرة غير مؤثرّة في اتّخاذ القرارات وتغيير ولو بسيط في شكل السلطة، سيرسّخان الاحباط واليأس من اي تغيير عند جماهير هذه الاحزاب وعموم جماهير شعبنا. ويبقى امام هذه القوى هدف اكبر وهو تنظيم الصفوف ووحدة الخطاب السياسي والعمل اليومي بين الجماهير، لحشدها وتهيئتها للمعركة الفاصلة، اي انتفاضة اكثر قوّة واتّساعا من انتفاضة تشرين، وفي الحقيقة فانّ الانتفاضة المنظمّة هي طريق خلاص شعبنا من الحكم الفاسد وليس الانتخابات، التي وضعت قوانينها لتدوير نفس الطبقة السياسية لتكون مالكة القرار من جديد.

اثناء الثورة الفرنسية رفع اونوريه جابرييل ريكويتي المعروف بميرابو شعار "اشنقوا اخر ملك بأمعاء اخر قسّيس". واثناء انتفاضة تشرين ومن وحي هذا الشعار رفع احد المنتفضين وتحت جدارية جواد سليم في ساحة التحرير لافتة تقول "نتمنى ان يُشنق اخر سياسي فاسد بعمامة اخر رجل دين فاسد". ولأننا نعمل كعراقيين لبناء نظام ديموقراطي حقيقي لا مكان للعنف ومصادرة الحريات فيه، فالقضاء هو الذي عليه محاكمة الفاسدين لا الجماهير المحبطة واليائسة والمتذمرة.