اعادة تهجين لبنان الكبير
بقدر ما كانت المفارقات كثيرة وغريبة في ولادة لبنان الكبير في العام 1920، بقدر ما تجمعت وتكاثرت المفارقات لاحقا للإسهام في تقليص حجمه ودوره، ان لم يكن انهاءه. وغريب المفارقات ايضا أسباب استمراره وبقاءه الى الان كدولة رغم زوال معظم الخصائص، التي يفترض وجودها كمقومات الدولة.
ورغم عدم حداثة هذه المظاهر التي باتت جزءا مرافقا للكيان، ظل محافظا ولو بشكل مخالف لطبيعة الدول. الا ان ما وصل اليه حاليا ينذر بأشكال وصور سيكون عليها في اية تسوية قادمة، وهي بطبيعة الامر ستكون مختلفة عما اعتاد عليه بنوه.
لبنان اليوم يعيش للمرة الثالثة فراغا رئاسيا، وسبق ومر بتمديد للسلطة التشريعية على مرحلتين ولعشرات السنوات، كما رافقت مؤسساته الإدارية والأمنية والعسكرية بمختلف أنواعها مطبات قاتلة لجهة الفراغات والعثرات من مختلف الأنواع. الا ان ما يعيشه اليوم من ازمات إضافية تشكل خطرا وجوديا على الكيان، لاسيما وان العديد من المؤثرات الخارجية تفعل فعلها في هذا الاتجاه. والاغرب من ذلك كله، ان رغم وضوح هذه المظاهر لا مواجهة ولا حراك مما تبقى من السلطة، وكأن الوضع القائم امر محتوم لا مفر منه، بل وكأن الموجودين في السلطة مشاركون في صناعة هذا الواقع ومؤتمنون عليه لجهة استمراره والدفع الى مزيد من التآكل والانهيار.
ثمة انقسام عامودي بين مختلف فئات الشعب اللبناني حول قضايا مصيرية يعيش فيها، إضافة الى مستجدات زادت في منسوب التباعد والشقاق، يأتي في طليعتها اليوم الموقف من الحرب على غزة، حيث انقسم اللبنانيون كعادتهم بين مؤيد ومعارض للمشاركة في عمليات الاسناد العسكرية، انطلاقا من التداعيات البشرية والاقتصادية والخسائر التي توصف بالكبيرة قياسا على حجم لبنان وامكاناته، وفي ظل اعتبار قسم من اللبنانيين هذا النوع من المساندة لن يكون له الأثر بالمستوى المطلوب قياسا على الكلفة الباهظة، حيث دمرت قرى وبلدات كثيرة، إضافة الى عمليات النزوح الواسعة والضغط الاجتماعي والنفسي والسلوكي غير المسبوق في الحياة السياسية اللبنانية.
وفي الواقع الاقتصادي والمالي القائم، ثمة ازمة عنيفة يعيشها الاقتصاد اللبناني منذ العام 2019، حيث سجل انهيار تام لليرة اللبنانية مقابل العملات الأجنبية، بحيث تتصدر اليوم لائحة اضعف عملة في العالم، وهو مؤشر خطير جدا، بعدما كانت الليرة اللبنانية اقوى من الفرنك الفرنسي مثلا وتكاد توازي قيمة الدولار في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. كما ان لبنان مهدد بوضعه على اللائحة الرمادية وحتى السوداء حاليا، وفي ظل وجود تقارير اقتصادية ومالية دولية وازنة، ان لبنان ليس بمقدوره استعادة وضعه الاقتصادي والمالي الى ما كان عليه قبل الازمة في العام 2019، اقله قبل عقدين من الزمن، وهي فترة حرجة جدا تترافق مع أزمات جيوسياسية مستمرة في المنطقة.
إضافة الى ذلك، ثمة ازمة خطيرة جدا تفاقمت من الواقع اللبناني المزري، والمتمثل في ازمة النازحين واللاجئين الذين باتوا ليس جزءا بل غالبية في التعداد السكاني. والمصيبة الأعظم في ذلك، ان لا إحصاءات دقيقة بذلك، والانكى ان المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة المسؤولة عن ذلك، تستنكف التعاون مع السلطات اللبنانية لتنظيم أوضاع النازحين، بل وبكل صلافة تقدم الدعم المادي والمعنوي وتحثهم على مواجهة السلطة في لبنان، وعدم التعاون في اعادتهم الى ديارهم، لاسيما وان مناطق شاسعة في سوريا تحظى بالامن اكثر من الأراضي اللبنانية. وبدون مبالغة، ان تعداد اللبنانيين بات اقل من نصف المتواجدين على أراضيه، في وقت يعيش الشعب اللبناني حالة عوز وفقر، فيما توزع المساعدات الأممية على النازحين بسخاء وبطرق التشجيع على البقاء في لبنان، وهو امر شكل خللا بنيويا في التركيبة السكانية والديموغرافية التي تعاني في الأساس من مشاكل بنيوية خطرة.
ولكي تتكامل ظروف تقادم الانهيار، ثمة اهتراء وشلل ومشاكل بنيوية أيضا في الإدارات العامة والمؤسسات، حيث المعاناة المرعبة لجهة الرواتب والعمل الإداري، وخلل الهياكل الإدارية، حيث النقص الفاضح والواضح، وديمومة الخلاف على تعبئة المناصب العليا، وعدم مراعاة القوانين والأعراف السائدة ما يعزز اهتراء هذه المؤسسات وانفراط عقدها، وهي المؤسسات الوحيدة الباقية التي تعمل بشق النفس، حيث الخوف يتعاظم حول وصول المسألة الى المراكز الأمنية والعسكرية قريبا.
ان مجموعة هذه الازمات تسهم في تشكيل صورة قاتمة لمستقبل لبنان، في ظل أوضاع إقليمية ودولية لا توحي بالراحة لوضع بات شبه ميؤوس منه. فلبنان الذي سينهي قريبا سنته الثانية بلا رئيس للجمهورية وسط انعدام الامل بانتخاب رئاسي في المدى المنظور، علاوة على التهيئة لدخوله العام الثاني لحرب اسناد غزة، واستمرار غرقه في الازمات القائمة والمستجدة يوميا، تعتبر جميعها عوامل غير إيجابية للتغير نحو الأفضل، انما جميعها تعتبر من نوع الازمات التي تتراكم بشكل تلقائي وتتعاظم آثارها وتداعياتها على بنية الكيان اللبناني، التي باتت ملامحها تتلاشى، بل لم تعد مرئية او ملموسة. كل ذلك وسط حديث عن ترتيبات قادمة ليس للبنان فيها صورة سلطة واضحة ومنجزة، يمكن ان تمارس دورها المفترض. فهل انتهى حلم لبنان الكبير بعد قرن ونيف من ولادته القيصرية، ام انه يمكن ان يعاد تركيبه وفقا لدور محتمل يدبر له؟