الامن الوطني وضرورة مركزيته

الجدل حول تعيين مدير شرطة لمدينة البصرة دليل على عقم أكليشيه "حق دستوري" التي يرددها البعض.

يقول الفيلسوف الأميركي رالف والدو امرسون "كل انسان أصادفه لا بد أن يفوقني من ناحية أو أخرى، ولذلك أحاول أن أتعلم منه". لاشك ان حياة الدول، بمؤسساتها التي ينبغي ان تكون خبراتها تراكمية، تشبه البشر في علاقاتهم ببعضهم، وفي تفاوت خبراتهم المختلفة، وفي تعلم بعضهم من بعض ايضا. اذ لا توجد امة في العالم لم تتعلم او تأخذ من خبرات غيرها من الامم، وهذا الذي يسمى بالتلاقح الثقافي هو من امد البشرية بأسباب التطور وصنع مجد الانسان، فالدول الغازية والمغزوة معا، ظلت عبر التاريخ، تستفيد من بعضها البعض، سواء بالفرض او بالتقليد.

العراق اليوم، وبعد خمسة عشر عاما على بدء العملية السياسية، يفترض ان ساسته ومسؤوليه تعلموا الكثير من الدروس، نتيجة التجارب التي مرت، وكاد بعضها يطيح بالدولة والمجتمع والساسة معا. لكن المؤسف ان تلك السنين مرت من دون ان يستفد منها البعض، ممن لا زالوا يفكرون بعقلية انانية، استحواذية، يدفع ثمنها باستمرار المواطن العراقي. لقد انتهى الجدل الطويل بشان الفيدرالية، التي تحدث عنها الكثيرون بصفتها حقا دستوريا، او هكذا يرد المروجون لها، على من يرونها مقدمة لتقسيم البلاد، وتمزيق المجتمع، وتقسيم ثرواته بين الاحزاب المتصارعة.

لقد اصبحت عبارة "حق دستوري" شبه مقدسة لدى البعض ممن يشهرونها كالفيتو بوجه من يحاججهم، حتى ادرك الجميع متأخرين، ان الفيدرالية، اذا ما طبقت وفقا لفقرات الدستور، فان العراق الدولة، سيكون في خبر كان. وربما هناك تطورات اقليمية ودولية، جعلت هذا البعض يرون ان الوقت غير مناسب لتطبيقها، وان ظل عشقها او عشق مغانمها يسكن عقولهم.

مؤخرا، نقل مدير شرطة محافظة ديالى الى منصب مدير شرطة محافظة البصرة، وبأمر من القائد العام للقوات المسلحة، رئيس الوزراء. الاّ ان اصواتا سياسية وحزبية تعالت ضد هذا الامر، بذريعة ان تعيين مدراء شرطة المحافظات من صلاحيات مجالسها! وقبل ايام قرأنا عبر الاعلام، دعوة من احد المسؤولين في البصرة، يطالب المحافظ بفتح باب الترشح للمنصب، مع انه مشغول بشخصية جاءت بأمر من القائد العام للقوات المسلحة!

بعيدا عن مدى دستورية وعدم دستورية ما نسمع، يبقى هناك شيء مهم يجب ان يعرفه الجميع، هو ان القائد العام للقوات المسلحة في أي بلد في العالم، يحق له نقل أي منتسب بإمرته في أي مكان من بلاده، لأي مكان اخر، وفقا لمقتضيات المصلحة العامة وتقديرا للموقف الذي يتحصل عليه من خلال مجسات الدولة وادواتها، التي تعطيه خارطة أمن يومية، يتصرف بموجبها، وهو ما دعى رئيس الوزراء، القائد العام للقوات المسلحة، ان ينقل مدير شرطة من محافظة عراقية الى اخرى، وهذه من بديهيات حقوقه ومن صلب واجباته، كونه المسؤول الاول عن الامن في البلاد. فالأمن في أي بلد وحدة واحدة لا تتجزأ. كما ان وحدة الجهاز الامني وتشابك خطوطه، تستدعي ان تتغذى الخطوط من بعضها بطريقة مركزية، لتمتد على مساحة الوطن كله، الوطن الذي له قوات مسلحة يكمّل بعضها البعض لتشكل منظومة امن، يسمى الامن الوطني.

ان خطورة ان يكون تعيين مدراء الشرطة والاجهزة الامنية من صلاحيات مجالس المحافظات، تكمن في ان هذه المجالس مقسّمة بين الاحزاب المتصارعة على السلطة، وهذه بديهية يعرفها الجميع، وعليه ستكون المهنية ضحية الولاءات وسيكون الامن في بعض مفاصله خاضعا لرؤى بعض القوى النافذة التي يقع تحت تأثيرها مدراء الشرطة، مهما حاولوا العمل باستقلالية، ومن ثم يكون الامن الوطني، بشكل عام، مخترقا او عرضة للاختراق، لان الامن في اخطر مفاصله تداخل مع السياسة والاعيب القائمين عليها.

ان ثقافة الاستئثار والابتعاد عن المركز، وبهذه الطريقة غير المدروسة، ستسبب الكثير من المتاعب للبلاد، لاسيما ان الامن القومي لكل دولة من دول المنطقة، مهدد بسبب الاعصار الارهابي الذي يضرب في اكثر من مكان، وان الامن الداخلي لكل دولة، يجب ان يكون مركزيا، اكثر من أي مرحلة اخرى، ولو لحين عبور المنطقة هذه المحنة الكبيرة، واستقرار حدود الدول على واقع سياسي جديد اكثر ايجابية، وهو ما ينبغي ان يتعلمه البعض، ممن لا يرون غير مصالحهم الحزبية والشخصية فقط.