الانقسام وشماعة العقوبات على غزة

يتلهى الفلسطينيون بتبادل الاتهامات عن المسؤول عن الانقسام بينما تعمل إسرائيل والولايات المتحدة على تحويله إلى انفصال.

مشاكل غزة ومعاناتها لم تبدأ مع ما تسمى العقوبات التي فرضتها السلطة على غزة منذ مارس 2017 كردة فعل على تشكيل حركة حماس لجنة لإدارة غزة. فحتى لو تم التراجع عن "العقوبات" فستستمر معاناة غزة والحصار والانقسام. كما أن المصالحة لم تفشل بسبب محاولة تفجير موكب رئيس الوزراء يوم الثالث عشر من مارس 2018. فحتى لو لم يحدث التفجير ما كان للمصالحة أن تنجح. هذه أمور مستجدة وعابرة أو مجرد نتائج وتداعيات وليست الأسباب الحقيقية للانقسام ولفشل المصالحة، والتركيز عليها يخفي نية مبيتة لإخفاء إما العجز أو التواطؤ على الأسباب الحقيقية للانقسام وفشل المصالحة.

لا يُعقل أن تفشل مئات جولات الحوار وجهود عديد الدول العربية وغير العربية واستمرار معاناة أهلنا في قطاع غزة وشلل النظام السياسي برمته بسبب وجود خلافات بين فتح وحماس. هناك ما هو أكبر وأخطر من هذه الخلافات، وقد رصدنا اركيولوجيا مسلسل الانقسام وصناعة دولة غزة في كتابنا "صناعة الانقسام: النكبة الفلسطينية الثانية" الصادر عن دار الجندي في القدس في طبعتين الأولى في عمان 2014 والثانية في القدس 2015، وعن منشورات الزمن في الرباط - المغرب 2016.

ولنعد إلى البدايات. فمنذ انطلاق تسوية أوسلو لم يكن واردا عند الإسرائيليين أن تكون دولة فلسطينية تجمع غزة والضفة بل كانت تخطط لدولة غزة فقط، وقد افشلت ودمرت إسرائيل كل جهود الرئيس أبو عمار لدمج الضفة وغزة وتسهيل التواصل بين أهل غزة والضفة وأعاقت الممر الآمن ودمرت لاحقا مؤسسات السلطة واجتاحت الضفة وحاصرت الرئيس أبو عمار واغتالته ونشرت حالة من الفوضى في قطاع غزة حيث انتشرت الجماعات المسلحة خارج الأجهزة الأمنية الرسمية وعمليات الخطف والسرقة والتغول على السلطة وتوجت كل ذلك بانسحابها من غزة 2005 من طرف واحد.

كان فصل غزة عن الضفة مخططا إسرائيليا لتدمير المشروع الوطني الفلسطيني قبل سيطرة حماس على القطاع في يونيو 2007. هذا المخطط وجد دعما له في مستجدات الاستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط وخصوصا مع طرحها لسياسة "الفوضى الخلاقة" في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير 2004.

لم تكن فلسطين بعيدة عن هذا المُخطط، وكانت دولة قطر عراب التطبيق الفلسطيني للمخطط وتحديدا وزير خارجيتها آنذاك حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني الذي باشر اتصالات مكثفة مع قيادة الإخوان المسلمين حيث اقنعهم القطريون بأن إسرائيل لن تمنح الفلسطينيين أكثر من قطاع غزة وعلى الجماعة أن تقنع حركة حماس بالأمر وأن على حركة حماس أن توقف عملياتها العسكرية داخل إسرائيل وتهيئ نفسها لدخول النظام السياسي من بوابة الانتخابات والاستعداد لاستلام قطاع غزة.

وهكذا انسحبت إسرائيل من قطاع غزة خريف عام 2005 وأعلنت حماس استعدادها للمشاركة في الانتخابات - وهي الانتخابات التي كانت محرمة عند حماس وأصدرت فتاوى عام 1996 بتحريم المشاركة فيها. وكانت البداية المشاركة في الانتخابات البلدية 2004/2005، وفي يناير 2006 جرت الانتخابات التشريعية التي فازت فيها حركة حماس وفي أجواء كانت شعبية حماس واضحة للجميع ووضع السلطة وسمعتها في تراجع. وفي 14 يونيو 2007 سيطرت حماس على قطاع غزة. خلال هذه الفترة الحرجة تواجد في قطاع غزة وفد أمني مصري استمر إلى حين إتمام سيطرة حماس على القطاع!

كون الانقسام جاء في سياق مخطط إسرائيلي أميركي لا يعني اسقاط المسؤولية عن الفلسطينيين. وفي إطار هذه المسؤولية فإن حركة حماس تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن الانقسام، وأن تعترف الحركة لاحقا بخطأ الانقلاب على السلطة كما صرح خالد مشعل أمام مؤتمر للحركات الإسلامية في الدوحة في سبتمبر 2016 وأن تعمل القيادة الحالية للحركة على الخروج من الورطة التي أوقعتها فيها جماعة الإخوان المسلمين، لا يغير من حقيقة مشاركتها الأولى في المخطط.

حركة حماس ومنذ تأسيسها طرحت نفسها بديلا لمنظمة التحرير وعملت كل ما من شأنه إفشال السلطة الفلسطينية والتشكيك فيها، ثم استمرت بعد سيطرتها على قطاع غزة في اتخاذ قرارات وممارسة سلوكيات تكرس الانقسام وتعزز سلطتها تحت مبررات أيديولوجية عقائدية كالقول بأنها تؤسس لسلطة ربانية بديلا عن السلطة العلمانية لمنظمة التحرير، أو مبررات سياسية كالقول بأنها أقدمت على ما جرى في اليوم المشئوم لتحسم مع جماعات متمردة لا تعترف بشرعيتها وخارجة عن الإجماع الوطني – جماعة محمد دحلان - أو انها تؤسِس لسلطة مقاومة لتحرير كل فلسطين، أو بسبب عدم جدية السلطة في استلام قطاع غزة. وقد كشفت الأيام كم هي واهية هذه المبررات حيث تحالفت حماس مع جماعة محمد دحلان، ووقعت اتفاقية هدنة مع إسرائيل وتحولت لمقاومة للدفاع عن سلطتها في قطاع غزة، كما ماطلت في تمكين حكومة الوفاق من ممارسة صلاحياتها في القطاع.

في المقابل فإن السلطة وحركة فتح والمنظمة يتحملون جزءا من المسؤولية غير المباشرة بداية للتقصير الذي حدث أثناء وقبل يوم الانقلاب بسبب ضعف السلطة آنذاك والخلافات داخل حركة فتح – جماعة محمد دحلان وجماعة أبو ماهر حلس - مرورا بسوء إدارتهم لملف الانقسام طوال أحدى عشرة سنة على حكم حمساوي للقطاع يتم تغذيته بأموال ومشاريع من السلطة ومن جهات دولية وأموال ومشاريع من دول عديدة وخصوصا من قطر وتركيا حلفاء حركة حماس، ومن الإمارات العربية عن طريق محمد دحلان، دون أن تقوم السلطة بأي إجراء ضد هذه الدول أو مجرد معاتبتها. هذه الأموال والمشاريع وإن كان ظاهرها إنساني إلا أنها صبت في خدمة تعزيز الانقسام وصناعة دولة غزة وكانت على مرئى ومسمع إسرائيل، وانتهاء بإجراءات الرئيس بشأن رواتب موظفي غزة وإجراءات أخرى تم اتخاذها بشكل مرتجل دون وجود استراتيجية أو رؤية واضحة للتداعيات المترتبة عن هذه القرارات، وهي إجراءات رمت الكرة في ملعب الرئيس أبو مازن الذي بدا بنظر كثيرين وكأنه بإجراءاته يعاقب كل قطاع غزة ويُعلن الانفصال والتخلي عن مسؤوليته كرئيس لكل الشعب ويشارك في تنفيذ صفقة القرن بتخليه عن قطاع غزة.

مما سبق نخرج بنتيجة أن معادلة الانقسام ليست فلسطينية خالصة وأن فتح وحماس ليستا طرفي الانقسام كما يتم تداوله، وللأسف فإن الاتهامات المتبادلة بين حركتي فتح وحماس واتهام كل منهما الأخرى بالمسؤولية عن الانقسام وإفشال المصالحة تصب في خدمة إسرائيل لأنه يبرئها من المسؤولية عن كل ما جرى.

واليوم وبدلا من البحث عن ذرائع للهروب من الحقيقة وإلهاء الشعب بمشاكل الرواتب يجب توحيد جهود كل الاطراف الفلسطينية لمواجهة إسرائيل التي تحتل كل فلسطين وصانعة الانقسام ولمواجهة صفقة القرن التي تهدف لتحويل الانقسام إلى الانفصال وتصفية القضية الفلسطينية.