'البحث عن الياسمين' مونودراما تفتش عن الذات في زمن الاغتراب
تونس - احتضنت قاعة المبدعين الشبان بمدينة الثقافة، الأربعاء، عرضا مونودراميا بعنوان "البحث عن الياسمين"، وهو عمل كتب نصه وأداه وأخرجه الفنان ناصر العكرمي.
وجاء هذا العرض الذي دام نحو 75 دقيقة كتجربة تأملية تعبر حدود الخشبة لتطرح أسئلة وجودية حادة حول قضايا الوطن والانتماء والهوية، فـ"البحث عن الياسمين" ليست فقط حكاية عن المنفى، بل رحلة روحية لاستكشاف الذات ومعنى الانتماء، في زمن باتت فيه الهجرة خيارًا داخليًا بقدر ما هي مادية.
وتدور أحداث المونودرام حول شاب باحث في مرحلة الدكتوراه يقرر الانسحاب من ضجيج الحياة الاجتماعية واختلالاتها ليعيش عزلة اختيارية في كوخ صغير قرب البحر. وهناك في ذلك الركن القصي، يخوض رحلة فكرية روحية بحثا عن الذات وعن الوطن. وتتجلى في هذه العزلة هجرة من نوع آخر، فهي ليست جسدية بل رمزية وفيها يحاور البطل البحر ككائن حي، فيتأمل ملامحه ويصطاد من عمقه الأسئلة بينما يبني قاربا صغيرا ويوثق تأملاته في مذكرات متقطعة تتخللها رقصة أو أغنية أو صمت ثقيل. لكن المفارقة الدرامية تبلغ ذروتها حين يكتشف أن موقع عزلته الهادئة هو نقطة عبور سري للمهاجرين، فينقلب التأمل إلى مواجهة وصراع داخلي وحيرة تبعث فيه التساؤل هل الهجرة هي الهروب من الوطن أم من الذات؟
ولم يكن البحث عن "الياسمين" عبثيا في هذه المونودرام، فهذه الزهرة العطرة التي التصقت بذاكرة التونسيين كثمرة لثورة 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، تعود هنا كرمز ضائع رمز وطن لم يعد كما كان وثورة لم تنجز وعودها، بحسب الأحداث المتواترة في هذا العمل.
وعقب العرض، قال ناصر العكرمي في حديثه لوكالة تونس أفريقيا للأنباء (وات) "يسألني كثيرون إن كنت أقصد بثورة الياسمين الثورة التي حدثت؟ فأجيب لا... 'البحث عن الياسمين' هو بحث عن تونس التي نحب وعن الأمل المفقود".
وتميز العرض بلغة مسرحية متعددة الطبقات تنسج بين السينوغرافيا التعبيرية على غرار تقنيات الإنارة المتغيرة حسب طبيعة الشخصية النفسية، والكوريغرافيا والموسيقى الشعبية، فشكلت عالما بصريا وجدانيا يعكس تموجات البطل الداخلية، وتتحول معها الخشبة إلى مرآة للتمزق ولأمل هش يراود الذات التائهة. وتصبح الأغنية الشعبية مرساة روحية تشد الشخصية إلى جذورها في لحظات الانفلات.
والممثل ناصر العكرمي الذي صقل موهبته الفنية بين المسرح الوطني التونسي والمعهد العالي للفن المسرحي تحت إشراف رموز مثل محمد إدريس والفقيد المنصف السويسي ومنير العرقي، بدا في هذا العمل كما لو أنه يلخص جيلا بأكمله مر من فترة حكم الحبيب بورقيبة إلى زين العابدين بن علي فالثورة ثم الكوفيد، وصولا إلى الواقع الراهن.
وفي هذا السياق، يقول العكرمي "هذا العمل جزء من مشروع أشتغل عليه منذ سنوات على غرار "سكات من ذهب" و"المجهول" و"البحث عن الياسمين"، وهي ثلاث محطات في رحلة بحث طويلة عن المعنى وعن الذات وعن وطن قابل للحياة".