التربية والتعليم في السعودية.. أثر الإخوان المدمر

ابتلاع الحقل التعليمي والتربوي من قبل الحركات الإسلامية وعلى رأسها الإخوان المسلمين لم يقتصر على دور التعليم والممارسة التربوية على الرغم من تأثيرهما الكبير بل تعداه إلى صياغة المناهج الدراسية.

***

ملخص بحث يوسف الديني "الإخوان وتأسيس السلطة الرمزية ابتلاع الحقل التعليمي في السعودية"، مركز المسبار للدراسات والبحوث، الكتاب 133 لشهر يناير (كانون الثاني) 2018.

اختطاف التعليم وارتهانه إلى الصراع الأيديولوجي ومحاولات فرض السلطة الرمزية، لا يحتاج إلى تدليل أو شواهد أكثر من احتياجه إلى أدوات لفهم وتحليل آليات الصراع على حقل التعليم، والبحث عن هويته وبناه الداخلية، وفي هذا السياق يمكن الاستشهاد على طريقة "وشهد شاهد من أهلها" بحديث وزير التعليم الحالي الدكتور أحمد العيسىفي كتابه الذي خطه قبل تسنم المنصب عن وضعية التعليم السعودي.

تعتبر التربية والتعليم في فكر الجماعة الأم "الإخوان المسلمون" وبقية تيارات الإسلام السياسي، جزء من الشمولية الأيديولوجية في فهمهم ورؤيتهم للإسلام الحركي، الذي يعمل في الواقع بديناميكيات تغييرية، فالمبدأ الأول من الأصول العشرين التي تمثل أساس تلك الرؤية، هو إعادة طرح مفهوم الإسلام بعد سقوط الخلافة كعقيدة حركية سياسية، فهو بحسب البنا: "نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء".

وكانت اتصالات البنا بالسعودية قديمة حتى قبل نشأة جماعة الإخوان، حيث جرت اتصالات ليقدم إليها ويعمل فيها في قطاع التعليم تحديداً، لكنه لم يتمكن من ذلك وأرسل خطاباً لوالده -في الإسماعلية- يعبر فيه عن حزنه العميق لعدم تمكنه من ذلك.

إذن، كانت المحاولة الأولى للاستثمار في السعودية عبر السيطرة على الحقل التعليمي والتربوي مع المؤسس حسن البنا، الذي ذكر عن نفسه تواصله مع الشيخ حافظ وهبة (مستشار الملك عبدالعزيز)، وكيف أن وهبه توسط مراراً لدى الحكومة المصرية لنقل البنا للعمل كمدرس في منطقة الحجاز عام 1928، وهو العام نفسه الذي أسس فيه جماعة الإخوان في الإسماعيلية.

لم يكن الأمر الذي يجول في بال مؤسس جماعة الإخوان مقتصراً على الجانب التعليمي أو التربوي، بل كان يأمل أبعد من ذلك؛ حيث يذكر أحد قادة الإخوان (أحمد أبو غالي) اهتمام حسن البنا المؤكد بالدولة السعودية للاستثمار الأيديولوجي فيها وتحويلها إلى دولة خلافة: "دولة آل سعود شاخصة في ذهن البنا، وكان يعتبرها الدولة (البروفة) لدولة الخلافة الإسلامية، التي كان يرى نفسه من خلالها خليفة المسلمين.

كان هدف مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا هو استغلال العلاقة الجيدة بين الملك عبدالعزيز والشيخ رشيد رضا، الذي كان أعداؤه يلقبونه بالوهابي أو زعيم السنة بحسب مؤرخين آخرين في بناء تنظيم متكامل داخل الأراضي السعودية، عبر شعار تطبيق الشريعة وعودة الخلافة ومقاومة الاحتلال في فلسطين، وبعد أن أصبح الإخوان ضحية نظام عبدالناصر الذي دعموه في ثورة الضباط الأحرار (1952)، ووصل بعدها للسلطة ثم اتهموا بمحاولة اغتياله بعد سنتين (1954) وواجه الإخوان عقبها سنوات من القمع والاعتقال والصراع، ليأتي الوقت الذي تتصاعد فيه أيديولوجية الإخوان بفضل سيد قطب ورسالته الثورية ذات التأثير البالغ "معالم على الطريق" الذي تحول إلى ما يشبه المانفيستو الحركي الثوري للإسلام السياسي، والذي أعلن فيه أن "العالم كله يعيش في جاهلية" ولا يمكن استرجاع نقاء هذا العالم إلا عبر سيادة "حاكمية الله".

هذا الانشغال بالحقل الديني التقليدي من قبل علماء المملكة؛ أتاح للإخوان الانقضاض على حقول أخرى وبناء شبكات قوية، وأسهم تدهور العلاقة مع نظام عبدالناصر وأنظمة البعث في سوريا والعراق في نشاط الجماعة في الداخل السعودي، وكان للثورة اليمنية التي قامت في 1962 أكبر التأثير على حدة التأزم السياسي الذي أطلق اليد للجماعة في بناء قاعدتها الجماهيرية عبر تفعيل رأس المال التعليمي والتربوي، وتشكيل ما يعرف في الاجتماع السياسي بالكتل الاجتماعية التي نشطت بشكل أكبر في عهد الملك فيصل، مع تواضع دور العلماء التقليديين، وانحصاره في تسيير الشأن الديني الرسمي.

عام 1961 تم إنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة التي حاولت منافسة جامعة الأزهر، التي سيطر عليها نظام عبدالناصر بعد أن أدخل عليها جملة هائلة من التغييرات بدءاً من عام 1961، وفي سياق موازٍ للمؤسسة التعليمية التي سيسهم الإخوان فيها بشكل كبير منذ تأسيسها، تم إنشاء رابطة العالم الإسلامي، بعد إنشاء الجامعة الإسلامية بسنة واحدة فقط في 1962، والتي كانت تمثل الحقل الثاني وهو الدعوي بمعناه المفارق للحقل الديني التقليدي، الذي كان يختص بالمواسم الدينية والإفتاء، بينما عنيت الرابطة بالفعاليات الدعوية الخارجية وصورة الإسلام في الخارج.

كانت حصة الإخوان في الجامعة الإسلامية الوليدة كبيرة، وازدادت مع الوقت لتشمل مواقع أخرى كجامعتي الملك عبدالعزيز وأم القرى وغيرهما، وكان من أبرز الشخصيات التي عملت في الجامعة الإسلامية علي جريشة (مصر) ومحمد المجذوب (سوريا) ومحمد قطب شقيق سيد قطب، وسيد سابق المؤلف الشهير لكتاب "فقه السنة" والذي ترأس قسم القضاء في جامعة أم القرى بمكة، ومحمد الغزالي الذي ترأس قسم الدعوة وأصول الدين بمكة، وصحيح أن هذه الجامعات عرفت أسماء لامعة من التيارات السلفية التقليدية كالشيخ محمد ناصر الدين الألباني وغيره، إلا أن دور هؤلاء كان مقتصراً على الفعالية العلمية والتدريس فيما يخص العلوم الإسلامية، مع بزوغ ثورة العودة إلى الحديث ونبذ التمذهب بعيداً عن الشمولية التي طرحها الإخوان، والتي انتقلت من العلوم الإسلامية والأنشطة الدعوية إلى مشروع أكبر، وهو أسلمة العلوم بمعناها العام.

فيما يخص جامعة الإمام (محمد بن سعود)، تأسست عام 1974 واتخذت طابعاً شرعياً في تخصصاتها، وكان للإخوان دور كبير في التأثير بسبب تسنم الدكتور مناع القطان لرئاسة الدراسات العليا، والدكتور محمد الراوي لقسم التفسير، والشيخ عبدالفتاح أبو غدة والشيخ محمد أبو الفتح البيانوني، وهما شخصيتان من إخوان سوريا للتدريس فيها.

وفي هذا السياق يؤكد علي عشماوي تغلغل الجماعة في المؤسسات التعليمية في كتابه المهم الذي يؤرخ للتاريخ السري للجماعة، حيث يذكر أن: "العلاقة الجيدة مهمة جدا لأمن الإخوان الموجودين في المملكة العربية السعودية"، وأنه تم تكليفه برسالة من قبل زينب الغزالي إلى سعيد رمضان وعبدالرحمن أبو الخير لتمتين العلاقة بالسلطات السعودية. وفي سياق آخر عن إخوان المهجر ينقل عن قيادي إخواني حين سئل عن التنظيم في السعودية أجابه بقوله: "إن الإخوان في السعودية قد اختاروا مناع قطان مسؤولا عنهم، وفي إمارات الخليج اختاروا الأخ سعد الدين إبراهيم.. مناع قطان أول مصري يجرؤ على تجنيد سعوديين في دعوة الإخوان في مصر للشباب السعودي، ولذلك فإنه قد فرض نفسه مسؤولا عن الإخوان بالسعودية دون استشارة أحد".

ويضيف عشماوي: "أخذت الخطاب وذهبت للأستاذ سيد قطب وطلبت مقابلته دون موعد سابق وقابلني، وقرأ الخطاب وأبدى إعجابه الشديد بالإخوة في السعودية، وقال: إن هذا دليل على أنهم منظمون جدا، وأنهم على كفاءة عالية من العمل".

وما يذكره الإخوان أنفسهم يذكره آخرون ممن شهدوا تلك المرحلة، ومنهم الباحث البحريني د. باقر النجار الذي ذكر: "أن القدرة التعبوية للجماعات الإخوانية في الجامعات السعودية، وتحديدا جامعة الملك سعود، وجامعة الملك فهد (البترول والمعادن سابقا) وفي بريطانيا قد أسهمت إسهاماً ملحوظاً، في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، في إطلاق قادة جدد للحركة". وينقل عن أحد المنظمين السابقين لحركة الإخوان المسلمين قسم البحرين قوله: "لقد تم تنظيمي عن طريق خلايا الحركة التي كانت منتشرة في حقبة السبعينيات في الجامعات السعودية، لقد كنا نخضع فيها لاختبار في قدرات التحمل، كأن يطلب منا الخروج في ليالي الرياض الباردة بملابس داخلية، إلا أننا كثيرا ما ندخل دورات فكرية مختلطة الجنسيات من عرب الشام ومصر من المقيمين في المملكة العربية السعودية، أو من أساتذة جامعاتها المحسوبين على حركة الإخوان المسلمين من العرب الوافدين، وقلة قليلة من السعوديين.

ابتلاع الحقل التعليمي والتربوي من قبل الحركات الإسلاموية، وعلى رأسها الجماعة الأم الإخوان المسلمين، لم يقتصر على دور التعليم والممارسة التربوية على الرغم من تأثيرهما الكبير؛ بل تعداه إلى صياغة المناهج الدراسية في الجماعة والصفوف الدنيا، وكانت هناك شخصيات بارزة من جماعة الإخوان قادت حركة تغيير المناهج، بحكم تخصصها في مجال التربية بمعناه الحديث والعصري، والذي كان السلفيون بمنأى عنه بحكم قلة خبرتهم وعدم تخصصهم خارج إطار المدرسة التقليدية بشقيها المذهبي وأهل الحديث.