التشرد وقد صار صناعة لبنانية

ضرب اللبنانيون رقما قياسيا في ازدواجية مشاعرهم المضطربة: شعب مهاجر على أرضه ومقيم في غربته التي لا تنتهي. 
حزب الله ومن ورائه إيران كانا أكثر مكرا من أن يكونا غطاء للحماية
لقد تطبعت الطبقة السياسية في لبنان على الكذب فهي تقول شيئا وتفعل شيئا آخر

ليست الهجرة جديدة على اللبنانيين. أجيال وأجيال وغالبا ما كان السبب في هجرتها يعود إلى أن البلاد ضاقت بهم. ليس اللبنانيين من الشعوب التي تضيق ببلادها. حبهم لبلادهم يتخذ طابعا اسطوريا. فيه الكثير من المبالغة التي تمزج رغبة خفية في التعالي واستعراض ينطوي على السخرية من الآخرين. كان لبنانيو قبل الحرب الاهلية (1975 ــ 1990) لا يشيرون إلى سبب تشردهم، بل أنهم لا يعتبرون أنفسهم مشردين. ولكن الاحوال ساءت كما لو أن الحرب لا تزال قائمة. في حقيقة الأمر فإن اللبنانيين لا يمكن أن يصدقوا أن تلك الحرب المذلة صارت جزءا من الماضي وانطوت صفحتها. كل شيء في حياتهم يشير إلى أن هزيمتهم لا تزال ممكنة في أية لحظة. لقد هُزموا ذات مرة. غير أن الجهة التي هزمتهم لا تزال قادرة على الحاق الهزيمة بهم من غير أن يكون هناك حائط يستندون عليه. لقد ضرب اللبنانيون رقما قياسيا في ازدواجية مشاعرهم المضطربة. فهم شعب مهاجر على أرضه ومقيم في غربته التي لا تنتهي.

تلك ثنائية فتحت الأبواب أمام حزب الله ليكون سيدا على البلاد من غير التفكير مليا في مستقبل تلك العلاقة الشاذة التي هي واحدة من ثمار الحرب التي ينبغي أن تكون قد انتهت. فلمَ انتهت الحرب ولم تحمل معها ركامها وحصصها ومكاسبها وسجلاتها فبدا حزب الله كما لو أنه المنتصر الوحيد بحيث ظلل بجناحيه كل الأطراف التي بشعت في قتل اللبنانيين وأذلتهم وأخرستهم وأذاقتهم المر عبر خمسة عشر سنة. بالنسبة لزعماء الحرب كان حزب الله حلا اعتقدوا أنه سيكون مؤقتا، ولكن الحزب ومن ورائه إيران كانا أكثر مكرا من أن يكونا غطاء للحماية. عام 2008 استيقظ اللبنانيين على فضيحة احتلال بيروت بعد أن كان الحزب قد دعا إسرائيل إلى تدمير البنية التحتية للبنان من خلال حربه عام 2006. لو لم يقف اللبنانيون، حكومة وشعبا وراء حزب الله في حربه العبثية لما لجأ الحزب إلى احتلال بيروت بخفة ماكرة. وماذا كان رد فعل السياسيين من الطوائف الأخرى؟ لا شيء.  

ولأن حزب الله ثقيل فإن اللبنانيين اكتسبوا الكثير من الخفة المضافة. سيكون عليهم أن يجدوا سببا جديدا للهجرة. لم يكن اللبنانيون يسمون هجراتهم تشردا في ما مضى فهل سيغيرون عاداتهم هذه المرة؟ من الصعب توقع ذلك. لقد دمر انهيار العملة ثقة الاستاذ الجامعي بمهنته. بات الجميع في طريقهم إلى أن يتشردوا في وطنهم. لم يعد اللبناني في حاجة إلى أن يهاجر لكي يكون مشردا. إنه مشرد ما دام يقف خارج القطعان الحزبية التي تحتمي بحزب الله خفية أو علنا. لقد تطبعت الطبقة السياسية في لبنان على الكذب. فهي تقول شيئا وتفعل شيئا آخر. لذلك لا يكترث حزب الله بما يُقال. فهو يعرف أن تلك الأقوال هي للاستهلاك الطائفي المحلي وهي لا تنطلق من رغبة حقيقية في المعارضة والتضحية بالمكتسبات التي يحميها الحزب الذي يرغب في أن يقف معارضوه واقفين على ضفة أخرى، هي في الحقيقة من صنعه. مَن لا يعجبه الوضع فليهاجر؟ ذلك شعار الأنظمة الشمولية سواء في المانيا النازية أو في روسبا الستالينية. لا تختلف إيران في سياساتها عن تلك الأنظمة. لذلك كان اللبناني أقل من مواطن وأصغر من أن يشير بأصبعه احتجاجا.

كنت قبل أيام جالسا بين لبنانيين في واحد من مهاجرنا فذكر واحد منهم "فينيقيا" فضحك الآخرون. لم أضحك أنا. التفتوا إلي. "هل صدقت الكذبة؟" قال لي أحدهم. أجبته "لا. ولكني فوجئت أنكم تسخرون منها." استمر حديثنا إلى الصباح وكان طعم تلك الجلسة مريرا. وصل اللبنانيون إلى لحظة الحقيقة. ليتهم يتمسكون بتلك النتائج ويتخلون عن المبالغة. اتمنى لو أن اللبنانيين تصالحوا مع أنفسهم واعترفوا بما ارتكبوه من أخطاء بحيث انتهوا إلى واقع يفرض عليهم الهجرة وإلا عاشوا مشردين على أرصفة الوطن حتى لو كانوا مدرسين في الجامعة. واقعيا علينا أن نعترف أن باب الهجرة قد فُتحت يوم قبل الشعب اللبناني بأن هزيمة عام 2006 كانت انتصارا وهو ما تفاجأ به حزب الله. يومها كان هناك أكثر من ثلاثمئة الف مشرد لجئوا إلى سوريا.

اليوم يطرد حزب الله اللبنانيين من وطنهم وهم في أشد الحاجة إلى أن يعترفوا بأن تشردهم هذه المرة هو صناعة وطنية عملت أجيال على تكريسها باعتبارها تقليدا لا يمكن التخلي عنه.