التعطيل حالة ميثاقية!

لبنان يعيش عطلا مدبرا في النظام الوطني وإعاقة تراكمية في النظام الأخلاقي. لا حرمة إلا للطموحات الشخصية على حساب الوطن، وللسلاح على حساب الشرعية.
بيننا من يعتبر أن لبنان ليس في أزمة، بل هو الأزمة، وأن لا حل للبنان إلا بحله
الدولة في لبنان استقالت وسلمت دورها للسلطة التي هي أساسا خريجة زمن الاحتلال والوصاية

لا شك أن لدى المعنيين النية الصادقة لعدم تأليف حكومة جديدة، ولا يتورعون عن إعلانها كلما سنحت لهم المنابر والحناجر. يتوزعون، مع القوى السياسية، صلاحيات تعطيل المؤسسات الدستورية كأن التعطيل أصبح حالة ميثاقية. كان المس بمؤسسة دستورية جريمة لا تغتفر فصارت، في السنوات الأخيرة، وجهة نظر. كانوا يقدمون عليها بخفر فصاروا يجاهرون بها بوقاحة. كانوا يجهدون لتأليف حكومة جديدة، فصاروا يلتمسون اجتهادات دستورية من كل صوب لتعويم حكومة مستقيلة. كانت المنافسة لإشغال مناصب هذه المؤسسات، فأمست لتفريغ المؤسسات بحد ذاتها. دولة في طور الأفول قبل الاتفاق على بديل.

أصلا الدولة الأصيلة، دولة لبنان الكبير، عدها البعض دولة بديلة. كان لبنانيون يعتبرونها بديلا عن جبل أشم ما زال يراود عزتهم، وآخرون بديلا عن وحدة عربية أو إسلامية حضارية هامدة في الوجدان، ومع حزب الله أضيف مفهوم الدولة الرديفة لإيران الخمينية. واللافت المحزن أن لبنان ما شارف في تاريخه الحديث على السقوط الكياني أكثر مما حين تم الاعتراف به "وطنا نهائيا". في ظني، سبب هذه الظاهرة الغريبة هو أن الاعتراف بنهائية لبنان ترافق مع تغيير هويته، والخروج عن الحياد، وتقويض انتظام مؤسساته الدستورية، والانتقال مباشرة من عدم الولاء للبنان إلى الرغبة في امتلاكه من دون المرور بالولاء الحقيقي والصادق والصافي. من يومها صار التعيين قاعدة الديمقراطية اللبنانية والانتخاب استثناءها، وأصبحت المؤسسات الدستورية نوعا من الكماليات أو المتممات.

إن إجراء انتخابات نيابية وانتخاب رئيس جمهورية وتأليف حكومة في المواعيد الدستورية هي واجبات دستورية ملزمة لا خيارات سياسية مزاجية. وكل استحقاق لا يغني عن الآخر ولا يكفي لاستقامة الدولة وانتظامها. لذلك، ادعاء باطل أن تأليف حكومة اليوم يقلل من فرص انتخاب رئيس جمهورية غدا، وأن عدم تأليفها يضاعف فرص انتخاب رئيس. احترام الاستحقاقات الدستورية أو تعطيلها دينامية تكاملية لا إلغائية. لكن في لبنان نعتمد الانتقائية في احترام الاستحقاقات. ومعيار الانتقائية هو مدى خدمة الاستحقاق هذا المشروع المذهبي أو ذاك.

الحقيقة أننا نعيش عطلا مدبرا في النظام الوطني وإعاقة تراكمية في النظام الأخلاقي. لا حرمة إلا للطموحات الشخصية على حساب الوطن، وللسلاح على حساب الشرعية. رأينا هذه "الثوابت" بالأمس ونشاهد نسختها المنقحة اليوم. وتزداد المخاوف حين نتذكر أن الحكم الحالي هو من دشن مع حزب الله نهج التعطيل الدستوري وشل المؤسسات. لا يملك الحكم استراتيجية سلام ولا استراتيجية حرب. يطالب بالسلام ويتبع، من خلال حزب الله، سياسة "موعد مع الحرب". فلا نتمتع بالسلام ولا نتحكم بالحرب. لبنان يبقى على شفير الفتن واللااستقرار، والمواطنون يتفرجون على سقوط هيكل الدولة وهم صاغرون ينتحبون.  تكيف اللبنانيون مع نظام السجن، وقد يستغنون قريبا عن الدولة.

تفقد الدولة ـــ أيا تكن الدولة ـــ مبرر وجودها ودورها ككيان راع المواطن وناظم المجتمع إذا لم تؤمن للشعب الغذاء والدواء والعلم والعمل والطبابة والاستشفاء والطرقات والاتصالات والكهرباء والماء والمحروقات، وإذا لم توفر له الأمن والاستقرار والبيئة النظيفة ونظام التقاعد والكرامة والمساواة والسيادة وحسن العلاقات الدولية. الأخطر من هذا التقصير المستدام، أن الدولة في لبنان استقالت وسلمت دورها للسلطة التي هي أساسا خريجة زمن الاحتلال والوصاية. منذ نصف قرن، لم يعرف شعب لبنان الحر سوى دولة التنازلات عن السيادة، ودولة الحرب والميليشيات، ودولة الاحتلال والتبعية، ودولة الفساد والهدر، ودولة الشرعية الأسيرة. لم ير الشعب في دولة لبنان قيم لبنان ولا عزة مقاومته ولا روح شهدائه.

لقد رسخ انحراف الدولة اللبنانية ثم عجزها فانهيارها في السنوات الأخيرة، نزعة الاستغناء عنها لدى الشعب والدول الخارجية. ها هي الدول الصديقة تتعاطى مباشرة مع القوى السياسية والجمعيات المناطقية وتوزع عليها مساعدات عينية من دون المرور بمؤسسات الدولة. وها هي تعضد الجيش اللبناني مباشرة أيضا وتعتبره العمود الأخير الباقي حتى الآن من هيكل الدولة. أما الشعب ففقد ثقته بالدولة المركزية، لا بالسلطة فقط. وجاءت الأزمات المعيشية في هذا العهد لتعزز فكرة الاستغناء عن هذه الدولة والاستعاضة عنها بتنظيمات محلية تتولى إحياء المرافق والمرافئ المناطقية وتوفير حاجات المجتمع المالية والاقتصادية والتجارية والتربوية.

إذا كان تنفيذ هذه التدابير الطارئة تأخر، فبانتظار معرفة ما ستسفر عنه التطورات الجارية والمقبلة ومصير انتخابات رئاسة الجمهورية. إذا حصلت الانتخابات الرئاسية وأتى رئيس وطني محترم جامع وقادر على بعث الثقة بالدولة وإصلاحها كان به، أما إذا حصل شغور رئاسي أو انتخب رئيس من نادي الهواة، أو من محفل الأمية السياسية، أو رئيس ينتمي إلى محور الممانعة، يعني التجديد للعهد الحالي باسم آخر، فالشعب حينئذ يتحرر وقد ردد مرارا: "أللهم أشهد أني بلغت". خشية الشعب اللبناني اليوم أن يؤدي الشغور الرئاسي هذه المرة إلى تغيير بنية الدولة والنظام والدستور قبل انتخاب رئيس لاحقا، أو إلى سقوط دولة لبنان الكبير.

من يدري إلى أي مدى سيقاوم الشعب اللبناني سقوط الدولة الحالية. منذ أن نشأت هذه الدولة والشعب المؤمن بها يقاوم ويدافع عنها. دفع ثمنها بالدم من دون أن "يستلمها". الشك في متانة هذه الدولة المئوية يكبر رغم عظمة المشروع وريادته في هذا الشرق. بيننا من يعتبر أن لبنان ليس في أزمة، بل هو الأزمة، وأن لا حل للبنان إلا بحله. صار كل مكون لبناني يمتلك مشروع دولة جديدة نقيض الآخر. وحري بهذه المكونات ألا تنسى أن أي مشروع دستوري يتطلب قادة وطنيين جددا. فالجماعة السياسية التي أفشلت دولة لبنان الكبير ستفشل دول لبنان الصغيرة أيضا.