التعليم الديني في تونس: الساحة لم تخل للإسلاميين

في شأن التعليم إدانة لحزب النهضة وكشف مخططاته فالإخوان المسلمون يدركون منذ البدء أهميّة المؤسسات التعليميّة ودورها في تغيير البنى الذهنيّة.



انتقد الإسلاميون مناهج التعليم الدينيّ المعتمدة في عدّة مؤسسات تعليميّة، واعتبروها مسؤولة عن "التصحّر الديني" الذي استشرى في البلاد في عهدي بورقيبة وبن عليّ، وكذلك عن فقدان الهويّة العربيّة الإسلاميّة، ووقوع الشبّان فريسة التغريب. ولذلك انصبّ جلّ اهتمام القيادات الإسلاميّة على تأسيس الجمعيات الخيريّة، وإنشاء المدارس والكتاتيب والمعاهد والمؤسسات التي تعنى بالتنشئة الدينيّة، وتعليم الراغبين في التخصّص في العلوم الشرعيّة. وكانت المساعدات التي تدفّقت من قطر وغيرها من البلدان العربيّة موظّفة لهذا النشاط. ولم تمانع وزارة التعليم والبحث العلميّ آنذاك (2012) في عودة التعليم الدينيّ إلى رحاب مسجد الزيتونة.

أمام هذا الوضع الذي نعته "العلمانيون" بـ"الكارثي" كان على مختلف مكوّنات المجتمع المدنيّ أن تتحرّك، لا سيما بعد انتشار العنف السياسيّ وظهور العمليات الإرهابيّة. فقد حمّل الناشطون مسؤولية انخراط مجموعات شبابيّة كثيرة في الإرهاب إلى المشرفين على النشاط الدعويّ، معتبرين أنّ فتح المدارس القرآنيّة بوتيرة متصاعدة خلال حكم "الترويكا" هو دليل قاطع على رغبة الإسلاميين في "أسلمة" البلاد، وتوجيه الناشئة نحو الانغلاق الفكري والتعصّب. وانتقد عدد من الجامعيين إحياء التعليم الزيتونيّ، معتبرين أنّ هذا التعليم مخالف لتوحيد نظام التعليم في البلاد، ومكرّس للتلقين وقائم على اجترار المعلومات دون إعمال العقل وممارسة النقد الحرّ.

 هكذا راح القوم يجمعون الحجج التي تدين حزب "النهضة" وتكشف مخططاته، ومن ذلك أنّ القيادات النهضاوية أدركت منذ البدء، أهميّة المؤسسات التعليميّة ودورها في تغيير البنى الذهنيّة، وإمكان توظيفها لمساندة مشروعها السياسيّ، فعملت على اختراق وزارة التربية والتعليم، وسعت إلى تغلغل عدد من مؤيديها من المعلمين والمعلمات في المدارس، وحرصت على تمكين الممتّعين بالعفو التشريعيّ بالعودة إلى مراكز عملهم، دون إخضاعهم لتأطير يجعلهم مواكبين لآخر النظريات التربويّة، وقادرين على استيعاب المضامين الجديدة والقيم الحديثة.

 إن كان على مستوى دروس التربية الإسلامية أو المدنية أو حتى على مستوى المواد الدراسيّة الأخرى. وقد رأى منتقدو حزب "النهضة" أنّ انعكاسات هذه السياسة خطيرة؛ إذ يترتّب على الحرص على "أسلمة التعليم" تغليب الانتماء الأيديولوجي على الالتزام بالمقرّرات، فضلا عن ممارسة ضغوط نفسيّة على التلاميذ. ولم يتوقّف تغلغل أنصار الإسلام السياسيّ -حسب عدد من العلمانيين- عند وزارة التربية بل تجاوز ذلك إلى وزارة التعليم العالي، إذ أصرّ حزب النهضة على توظيف عدد من أتباعه في مراكز البحث دون اجتيازهم المناظرات الرسميّة، وعمل على توظيف أتباعه في المؤسسات التعليميّة المختلفة، وهو ما اعتبر اعتداء صارخا على القوانين، ومثّل، في نظر عدد من الجامعيين تهديدا واضحا للحريّات الأكاديميّة، وحجّة على "أخونة التعليم" في مستوياته المختلفة.

لا يذهبنّ في الاعتقاد بأنّ الجدل حول مسألة التعليم الدينيّ قد حسم. فبعد تفطّن عدد من الناشطين الحقوقيين أخيراً، إلى وجود فرع تونسيّ لـ"الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" الذي يشرف عليه يوسف القرضاوي، عاد النقاش الحادّ من جديد، وتضاعفت أدلّة إدانة حزب النهضة. وبما أنّ هذا الفرع يشرف على التأهيل في مختلف العلوم الشرعيّة، ويمنح شهادات علميّة في العلوم الشرعيّة، فقد تساءل عدد من الناشطين والجامعيين عن مدى مشروعيّة هذا التعليم الجامعيّ، لا سيما وأنّه يتمّ بمعزل عن رقابة وزارة التعليم العالي. فهو تعليم مواز وغير مرخّص له، وخارج عن إشراف الدولة.

تصفية الإرث البورقيبي

لا يتسنّى لنا فهم طبيعة الجدل الذي احتدم بين العلمانيين والإسلاميين عن التعليم الدينيّ؛ دون الرجوع إلى موقف كلّ فريق من السياسات القديمة التي وضعها الزعيم بورقيبة مؤسس الجمهورية الأولى، والتي أفضت أوّلا: إلى استبدال المؤسسات التعليميّة التقليديّة بمؤسسات أخرى تعبّر عن توجّه البلاد التونسيّة نحو بناء مرحلة تاريخيّة وثقافيّة جديدة، وثانيا: إلى الحدّ من سلطة العلماء وتغيير مواقعهم الدينيّة والاجتماعيّة والرمزيّة  . ولا يمكن لمتابعي للجدل المستمرّ عن موقع التعليم الدينيّ في المنظومة التعليميّة إلاّ أن ينتبه إلى تأثير الذاكرة المشحونة بأخبار؛ ووقائع تتصل بكيفيّة إنشاء الدولة الحديثة، والجرح النرجسيّ الذي يعاني منه أغلب الإسلاميين بسبب محاكاة بورقيبة لأتاتورك في فرض "العلمنة القسرية". وانطلاقا من هذه البنية النفسيّة المخصوصة مثّلت الثورة في نظر الإسلاميين، فرصة لمحاسبة بورقيبة، ووضع خياراته الثقافية تحت المجهر، بل محاكمته. ففي مناسبات كثيرة رفض عدد من القياديين في حزب "النهضة" الترحّم على الزعيم بورقيبة، وتعمّد بعضهم الدعاء عليه وانتقاد سياساته، وتحميله مسؤولية حلول دولة الاستبداد وتفشّي الانحلال الأخلاقي، والتذكير بموقفه من المؤسسة التعليميّة التقليديّة: "الزيتونة" ، وغيرها من المؤسسات التابعة لها، وحرصه على الحدّ من الرأسمال الرمزيّ للعلماء، وذلك من خلال تعمّد إهانتهم في أكثر من مناسبة. واعتبر رئيس حزب النهضة "الغنوشي" أنّ الفرصة سانحة لـ"تصحيح خطأ تاريخي"، والخطأ الذي ارتكبه بورقيبة من منظور الغنوشي، هو تصفية الأحباس، وإعادة هيكلة التعليم الزيتونيّ ومنع العمل بنظام الأوقاف، والحدّ من سلطة العلماء ولذلك نبّه الغنوشي في أكثر من مناسبة إلى أهميّة إعادة الاعتبار إلى التعليم الدينيّ ، ومؤسسة الأوقاف والاقتصاد الإسلاميّ والبنوك الإسلاميّة. ولم يتوان أتباع النهضة عن تشجيع الجمعيات التي تسعى إلى نوع من التأطير الدينيّ لبعض مظاهر الحياة العامة، وتطالب بتجريم كلّ اعتداء على المقدّسات الدينيّة.

 ليس الخلاف على موقع التعليم الدينيّ في المنظومة التعليميّة بين العلمانيين والإسلاميين –إذن- خلافا حول التصوّرات التربويّة والمناهج والمضامين والنماذج، بقدر ما هو خلاف حول السياسات التي اتّخذت في الماضي، وموقع بورقيبة في الذاكرة الجمعيّة. فبينما يصرّ الإسلاميون على انتهاز فرصة التحوّل الديمقراطيّ لاستبدال الأنموذج القديم بأنموذج آخر يرون أنّه أكثر ملاءمة لخصوصيّة المجتمع التونسيّ الذي يُتمثّل على أنّه مجتمع عربيّ مسلم، يتمسّك العلمانيون بالأنموذج البورقيبي على أساس أنّه الأنموذج الأوحد والأمثل، ويرون أنّه حقّق نجاحا على مستوى تغيير العقليات، وجعل تونس في مقدّمة الأمم التي تسير نحو ركب الحداثة. وبين محاولات "شيطنة" بورقيبة وإدانة إنجازاته والرغبة في محو آثار العلمنة من جهة، والعمل على إحياء الفكر البورقيبي والتمسّك بالمنوال التعليميّ الذي حاول تحديث التعليم الدينيّ، من جهة أخرى. وبدا التونسيون ممزّقين تستبدّ بهم الحيرة بشأن مستقبل أبنائهم، لا سيما بعد هيمنة المرجعيات الأيديولوجيّة على السياسيين وعدد من الفاعلين في المجال التعليميّ.

التعليم أداة لبناء الدولة المدنيّة أم الدولة الإسلاميّة؟

تتنزّل قضيّة المنوال التربوي والتعليميّ ومكانة التعليم الدينيّ في المنظومة التعليميّة في إطار سياسيّ؛ ذلك أنّ كلّ خصم يراهن على الأجيال الجديدة التي ستحقّق الحلم أو تحافظ على الإرث الفكريّ والرمزيّ . فبينما يتمسّك العلمانيون بضرورة تقليص المواد الدينيّة، وتكثيف المواد المدنيّة التي تخدم ثقافة المواطنة وتكرّس المثاقفة، وتعزّز ترسيخ القيم الحداثية كالمساواة والحرّية والعدالة الاجتماعيّة والتسامح والتعدديّة... يدافع الإسلاميون عن حقّهم في تمكين أبنائهم من تعليم دينيّ متين، يسمح لهم بتجذير هويتهم العربيّة الإسلاميّة والتفافهم حول الأمّة، ويحصّنهم من الغزو الثقافيّ والانحلال الأخلاقيّ. ولذلك كان التغيير "من تحت" عبر نشر فيديوهات الخطب والدروس وغيرها من المواد في الفضاء الافتراضي وسيلة للتنشئة الدينية.

 أمّا الإسلاميون فإنّهم يستنكفون من الفردانية المفرطة، ومن تفشّي مظاهر الانحلال، ويلحّون على أنّ الحلّ يكمن في توخّي منهاج تربويّ يضمن ارتباط الفرد بالجماعة اجتماعيّا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا. ثم إنّ هؤلاء يعتبرون أنّ مضامين الدرس الدينيّ متى كانت ثريّة ساعدت الفرد على الانتماء إلى حضارته العربيّة الإسلاميّة ووثّقت صلته بالأمّة. ولئن قبلت فئة من القيادات النهضاوية بمدنيّة الدولة، فإنّ الأتباع حلموا بإرساء الدولة الإسلامية، معتبرين أنّ التعليم الدينيّ وسيلة من بين الوسائل المتاحة لتغيير العقليات وتهيئتها لتقبّل نظام الحكم الإسلاميّ المنشود.

يلوح من خلال الجدل المحتدم عن موقع التعليم الدينيّ في تونس ما بعد الثورة، أنّ الجدل يخفي خلافات عميقة ومركّبة تتصل بمكانة المواطنة، والدين في الواقع المعيش للتونسيين. فالإسلاميون يرون أنّ التعليم الدينيّ يسبق التربيّة على الثقافة المواطنة، وفي المقابل يصرّ العلمانيون على أنّ الأهمّ هو توعية الأفراد بأنّهم تونسيون ومواطنون قبل أن يكونوا مؤمنين، وهذا من شأنه أن يفتح النقاش على أبعاد أخرى للموضوع منها ما يتصل بالهوّية، والمواطنة، ونظام الحكم، وطبيعة المجتمع ونمط الحياة وغيرها.

ملخص بحث آمال قرامي "التعليم الديني في تونس بعد الثَّورة: جدل العلمانيين والإسلاميين"، كتاب 133 يناير(كانون الثاني) 2018 "الإسلاميون ومناهج التعليم في العالم العربي وتركيا وإيران" مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي