التماس مفاوضات فيينا

غالبية التسويات التي "نجحت" في الشرق الأوسط، وكانت الولايات المتحدة الطرف الأساسي فيها، غدرت بلبنان.
لم نعد نريد أن نظل شعبا برسم الهجرة أو الاستشهاد أو البطالة
من الممكن تقسيط الحلول في إطار حل لكن لا يمكن تصغير المشاكل في إطار تسوية

أعرف كيف ينعكس فشل مؤتمر فيينا حول النووي الإيراني سلبا على لبنان، لكني لا أعرف كيف ينعكس نجاحه إيجابا عليه. ولست متيقنا إذا كان المتعارف عليه أنه سلبي هو حقا سلبي، والمتعارف عليه أنه إيجابي هو حقا إيجابي. حين يبلغ الصراع بين الأطراف اللبنانية نقطة اللاعودة ـــ كما الحال راهنا ـــ يصبح الإيجابي لطرف سلبيا للآخر. نحن نتقاسم المشاكل ذاتها ونفترق حيال الحلول والأحلام. معيار إيجابية فيينا بالنسبة للبعض هو إنهاء كل الحالات غير الدستورية في الحياة الوطنية اللبنانية وإعادة لبنان دولة حرة (هذا هو الحل الطبيعي). ومعيار سلبية فيينا بالنسبة للبعض الآخر هو الإبقاء على هذه الحالات الشاذة والاعتراف بها والتعايش معها خلاف الدستور والقرارات الدولية (وهذه هي التسوية المميتة).

غالبية التسويات التي "نجحت" في الشرق الأوسط، وكانت الولايات المتحدة الطرف الأساسي فيها، غدرت بلبنان. وعلى سبيل المثال:

1) بعد نجاح مفاوضات "كامب ديفيد" (17 أيلول/سبتمبر 1978) بين مصر وإسرائيل برعاية أميركية، نشبت حرب المئة يوم في الأشرفية ومعركة زحلة بين جيش الاحتلال السوري والقوات اللبنانية بقيادة بشير الجميل، وتصاعدت العمليات العسكرية الفلسطينية في بيروت والجنوب. 2) إثر نجاح أميركا في إقناع سوريا (أيلول 1990) بالانضمام إلى التحالف الدولي في حرب تحرير الكويت، أطلقت يد الجيش السوري فاحتل بيروت واقتحم القصر الجمهوري ووزارة الدفاع (اجتياح 13 تشرين الأول/اكتوبر)، وقرت عيون البعض بولادة النظام الأمني اللبناني/السوري. 3) عقب نجاح المفاوضات النووية الأولى في فيينا (14 تموز/يوليو 2015) بين أميركا وإيران، حصل تعطيل الدستور والشغور الرئاسي والتسوية الرئاسية سنة 2016، وسيطر حزب الله على الدولة اللبنانية.

ما نريده من مفاوضات فيينا، ومن أي تطورات في المنطقة، أن تؤدي في نهاية المطاف إلى ما يلي: 1) إيجاد حل فعلي لمشروع حزب الله وسلاحه المناقضين للدستور اللبناني والميثاق والشراكة الوطنية، فيتحول حزبا سياسيا أساسيا نتشارك وإياه في تعزيز كيان لبنان ووحدته وسيادته، وهو ما دأبت عليه تاريخيا الشيعية اللبنانية. 2) تنفيذ جدي للقرارات الدولية الأممية وبخاصة الــــ 1559 و1860 و1701 الضامنة نصيا استقلال لبنان وسيادته وسلطته الشرعية وحدها على كامل الأراضي اللبنانية. 3) انبثاق سلطة دستورية وطنية جديدة (نيابية ووزارية ورئاسية) تقود الإصلاحات السياسية والاقتصادية برعاية دولية وتعمل على إعلان حياد لبنان. 4) اختيار شخصية استثنائية لرئاسة الجمهورية تتميز بأخلاقها ووطنيتها وشجاعتها واتزانـها ونضجها، فتسمو بالشرعية فوق الجميع، وتواجه أي تطاول عليها وعلى الكيان والدولة، وتراقب انتظام عمل السلطات والدستور والتوازن الوطني. 5) إسراع المجتمعين العربي والدولي إلى تقديم مساعدات مالية بحجم الانهيار اللبناني على أن تصرف بإشراف لجنة مصغرة من الدول المانحة إلى حين عودة ثقة العالم بالسلطات اللبنانية. 6) إعادة إحياء النظام المصرفي وتطهيره وإرجاع أموال المودعين تدريجا لأن هؤلاء هم الذين سيحيون القطاع الخاص وينهضون بالحركة الاقتصادية والمالية والعقارية. 6) إطلاق مفاوضات وطنية بين المكونات اللبنانية تؤدي إلى تطوير النظام اللبناني ليتوافق أكثر فأكثر مع واقع التعددية اللبنانية الحضارية والتباينات الناشئة في إطار الكيان اللبناني.

مثل هذه النقاط نعتبرها إيجابية وتنقذ لبنان. أما إذا كانت "إيجابيات" نجاح مؤتمر فيينا ستعيد لبنان إلى واقع ما قبل 17 تشرين الأول 2019، أي إلى التعايش بين الأزمات والاستقرار وإلى إنعاش الطبقة السياسية من دون تمييز، فهذه قمة السلبيات. لم نعد نريد استقرارا ملغوما واستقلالا زائفا ودولة وهمية وأمنا مرهونا وحرية سطحية. لم نعد نريد إيجابيات تولد من تسويات ظرفية جديدة من فصيلة تسويات الثلاثين سنة الأخيرة، فتريح العالـم وتنهك اللبنانيين. لم نعد نريد علاجا لا يكون حلا لأزماتنا الأساسية فينقل لبنان من غرفة العناية الفائقة إلى غرفة عادية، لكنه يبقى عليلا في الـمستشفى. لم نعد نريد أن نظل شعبا برسم الهجرة أو الاستشهاد أو البطالة، ومجتمعا مفككا بين طوائفه ومذاهبه وثقافاته وأنماط عيشه، ودولة مغلوبا على أمرها تعيش على الحد الأدنى من الكرامة، ومن دون بدل نقل سلطتها إلى غيرها، ومن دون تعويض آخر الخدمة. لم نعد نريد أن نظل وطنا للحروب والصراعات القديمة والناشئة، وأرضا لاستقبال النازحين واللاجئين من دون أفق لعودتـهم إلى الديار.

حين تكون طبيعة الصراع وجودية وتتعلق بمصير الأمة اللبنانية، تتضاءل فرص الوصول إلى تسويات. حتى الآن كانت التسويات المرحلية تنقذ ظاهريا وحدة لبنان الجغرافية على حساب وحدة اللبنانيين وأمنهم واستقلالـهم واستقرارهم وسلطة الدولة. ولأن أكثرية التسويات اللبنانية السابقة أتت امتدادا لتسويات المنطقة أو بالتوازي مع أحداث إقليمية، يتوجس اللبنانيون الباحثون عن حلول منقذة، من أن تقترح عليهم بعض الدول، بعد فيينا، تسويات تثبت الأمر الواقع. إن الانهيار الكامل الذي بلغه لبنان يحتم حلا كاملا لئلا يصبح الانهيار نهائيا ويغوص لبنان في تغييرات كيانية بدأت تلهج بها مراكز القرار الدولية رغم نفي سفرائها هنا.

لا "يحظى" لبنان بفرصة أن ينهار كل يوم، وأن يسوى بالحضيض كل يوم. وإن من فائدة لهذا الدمار الشامل، فهي أن تكون مناسبة للحلول الجذرية. لا توجد تسوية قادرة على تحمل ضخامة المشاكل اللبنانية ذات الأصول والامتدادات والإمدادات الخارجية. يمكن تقسيط الحلول في إطار حل، لكن لا يمكن تصغير المشاكل في إطار تسوية. إن أفضل حل سلمي للبنان يـمر عبر أحد الطريقين: التزام الدستور اللبناني أو تنفيذ القرارات الدولية. بيد أن هناك من يرفض الشرعيتين اللبنانية والدولية، ويضع لبنان أمام أخطار مختلفة أنجحت مفاوضات فيينا أم فشلت، أجرت الانتخابات النيابية أم لم تجر، كأن الورم اللبناني لا يصلح علاجه بالدواء ولا بالـمنظار، بل بالجراحة. أليس لبنان مستشفى الشرق؟