الثقافة الجمعية العراقية امام اختبار كردي حقيقي

لا تتغير العلاقة بين بغداد وأربيل إلا لتعود كما كانت: تشكك وانعدام الثقة.

لو ان المشاكل العالقة بين بغداد واربيل، مطروحة في اية دولة اخرى (حتى وان كانت شرق اوسطية)، لكان من الممكن حلها بسهولة وفي وقت قصير، لانها وبشكل عام مشاكل قابلة للحل وغير قاتلة، تحتاج فقط حسن نوايا. لكن... هل يوجد في بغداد حسن نوايا؟

مرت العلاقة بين كردستان والعراق بمنعطفات كثيرة منذ 2003 ولغاية يومنا هذا، كادت ان تصل احيانا كثيرة الى قطيعة كاملة، لولا حكمة صناع القرار في كردستان، وادراكهم حجم المؤامرات التي تحاك ضد هذه العلاقة، بادوات عراقية، تدفعها جهات اقليمية، كانت وما تزال تعمل على ادامة المشاكل الداخلية في العراق لتمرير اجنداتها. وكانت اخطرها محاولة بغداد القضاء على تجربة اقليم كردستان في احداث 16 اكتوبر المعروفة وتداعياتها، وشهدنا كيف جابه الاقليم تلك المحاولة بدبلوماسية داخلية ودولية اجهضتها.

وفي الوقت الذي نشهد فيه تشكيل الكابينة التاسعة لحكومة اقليم كردستان في ايامها الاولى، وتواجد نية حقيقية عندها لتصفير المشاكل مع العراق، بدأت اطراف معينة في بغداد اثارة ملفات عالقة، لاجهاض محاولات التقارب بين العاصمتين بغداد واربيل.

يجب علينا في كردستان ادراك ان ثقافة رفض الاخر هي ثقافة سائدة في الجزء العربي من العراق. وللانصاف فان ثقافة رفض الاخر هذه ليست وليدة الواقع الراهن، ولا هي من بدع الاحزاب الاسلامية الشيعية الحاكمة حاليا، بل هو توجه متجذر في الثقافة العراقية ازاء اي توجه كردي منذ عهد البعث الذي كان يهيمن اعلاميا على عقل المواطن العراقي ويصور له الثورة الكردية بانها "تمرد على الحكومة الوطنية في العراق"، مع المصطلحات التي كان ذلك النظام يسوقه في اعلامه في وصف الثوار الكرد، تارة ينعتهم بالجيب العميل، وتارة بالعصاة، واخرى بالمتمردين، فتربت اجيال عربية عراقية ترى الثائر الكردي خائنا للعراق وليس مناضلا من اجل حقوق مشروعة تقرها جميع الشرائع الدينية والدنيوية.

وعقب مجيء الاحزاب الاسلامية الشيعية وتسلمها للسلطة في بغداد، اخذت هذه الثقافة تتوسع، لتصبح ثقافة رفض مركبة، شملت ليس فقط من يختلف معهم في القومية، وانما حتى في الدين والمذهب. تبنت هذه التوجهات المضادة للكرد اطراف سياسية عراقية بدعم من جهات اقليمية، عبرت عن نفسها من خلال المظاهرات التي خرجت في 2004 في مدن جنوب العراق، لتندد بمطالبة الكرد بالفدرالية، مع العلم ان اغلبية من تظاهروا لم يكونوا يعرفوا معنى الفدرالية في وقتها.

لم تقف ثقافة الرفض هذه عند هذا الحد بل تجاوزته لتتحول الى ثقافة يمكن تسميتها بثقافة الكره، تبنتها وجوه سياسية جديدة طامحة لتصدر المشهد السياسي بعد 2003، مستغلة مشاعر الرفض هذه في الشارع العراقي، للظهور بمظهر الابطال في الوقوف بوجه اي مطلب كردي حتى وان كان مشروعا. ونجح الكثير منهم في الدخول الى عالم السياسة من هذا الباب ولا يزالون مشاركين فيه. وان دل نجاحهم هذا على شيء فانما يدل على النبض الحقيقي للشارع العراقي العربي.

ان ما موجود في العراق يخالف كل القوانين الطبيعية للاشياء... فالمنطق يقول بان الطرف المعتدي هو من يجب ان يظهر حسن نياته للمعتدى عليه، ومد جسور التفاهم والتواصل معه لا العكس. بينما ما مطروح في العراق هو ان الطرف العربي الذي يعتبر هو "المعتدي" لا يزال مصرا على رفض المطالب الكردية في الوقت الذي يحاول الكرد (الطرف المعتدى عليه) تبني ثقافة عفا الله عما سلف، والانفتاح على الاخر العربي.

رغم الاختلاف بين النظام السابق والنظام الحالي في الرؤى والتوجهات، الا انهما يشتركان في عسكرة الشارع العربي العراقي ضد التوجهات الكردستانية، وان كانت بادوات مختلفة واسباب ودوافع متباينة. ليثبت للكرد شعبا وساسة بان لا فرق بين القومي العربي (حزب البعث) او الاسلامي السياسي (كالاحزاب الاسلامية الحالية الحاكمة) في توجهاته ازاء الشعب الكردي والنظر الى حقوقه انطلاقا من نفس الزاوية الحادة للاشياء.

والان وبالتزامن مع تشكيل حكومة كردستان بكابينتها الجديدة، تخرج اصوات من بغداد تحاول وضع الغام سياسية لتعكير المشهد السياسي بين بغداد واربيل، ووئد محاولات كردستان المخلصة لتصفير مشاكلها مع العراق.

مما لا شك فيه ان هذه الاصوات التي تتعالى من بغداد غير صادرة من فراغ، بل هي استمرار للسياسة التي انتهجتها اطراف اقليمية في دفع دمى بغداد لوضع العصا في عجلة العلاقات بين كردستان والعراق منذ الالفين وثلاثة.

رغم كل هذا المشهد السياسي والشعبي القاتمين فان هناك اسباب ومعطيات تجعلنا متفائلين من امكانية توصل الطرفان الى حلول فيما بينهما ومن جملة هذه الاسباب:

1- وجود حكومة في بغداد نستطيع وصفها بالاكثر اعتدال عن سابقاتها، رغم محاولات اسقاطها من قبل جهات معروفة بولاءاتها الخارجية.

2- خفوت التأثير السياسي والعسكري لمليشيات عراقية مسلحة، خاصة بعد الضغوطات الاميركية عليها.

3- الضغوطات الدولية والاميركية على الجهات الاقليمية التي كانت تدفع باتجاه توتير العلاقة بين كردستان والعراق.

4 - ان خفوت تأثير المليشيات المسلحة والاطراف الاقليمية في النقطتين السابقتين قللا من تأثيرها الى حد كبير على الشارع العراقي، وبالتالي حيدت ثقافة الرفض المجتمعية الى حد كبير، ويمكن اعتبار مظاهرات كركوك التي دعى اليها المجلس العربي دليل واضح على فشل هذه الجهات في استغلال ثقافة المجتمع الرافضة لترشيح محافظ كردي لكركوك، فقد لاحظنا كيف ان التظاهرة فشلت في استقطاب الجماهير التي لم تتجاوز البضعة عشرات.

5 - وجود توجه اممي ودولي داعم وضاغط باتجاه ايجاد حلول للمشاكل بين الاقليم والمركز قد يتحول الى اشراف اممي مستقبلا على اي اتفاق بين الطرفين.

انطلاقا من النقاط اعلاه فان الثقافة الجمعية العراقية، ساسة وشارع، امام اختبار كردي حقيقي في جس نبض تغيير توجهاتها ازاء المطالب الكردية، في الوقت ذاته فان حكومة كردستان الجديدة امامها فرصة لتحريك المياه الراكدة مع بغداد، ووضع النقاط على الحروف، دون القبول بالحلول المطاطة التي تمرست عليها بغداد. فعدم التوصل الى حلول عملية مع بغداد هذه المرة ستكون انتكاسة حقيقية لاي تفاهم مستقبلي حول هذه الملفات.