الثقافة العربية تعيد التفكير في ذاتها في أول ندوة تفاعلية لنقد الأدب الرقمي

اتحاد كتاب الإنترنت العرب يطلق سلسلة ندوات رقمية لبحث تجديد الفكر العربي في العصر الرقمي، ويستُهل بندوة حول مشروع زهور كرام المؤسس لأدب رقمي عربي يجمع بين التحليل الفلسفي والتفاعل التقني ويعيد مساءلة مفاهيم الهوية الذات والمواطنة في ظل الذكاء الاصطناعي.

في زمن تتقاطع فيه التحولات التقنية مع الهزات الفلسفية، وفي مرحلة تستشرف فيها الثقافة العربية طريقها نحو تجديد أدواتها ورؤاها، جاءت مبادرة اتحاد كتاب الإنترنت العرب لتطلق سلسلة من الندوات الرقمية المعمقة، محاولة استعادة دور المثقف في زمن الصمت الرقمي والضجيج الخوارزمي. هذه السلسلة لم تكن مجرد نشاط عابر، بل خطوة تأسيسية نحو بناء فكر رقمي عربي متجذر في اللغة والهوية والانتماء، بعيداً عن الانبهار الأجوف بالتقنية. وجاءت انطلاقتها بندوة نوعية خُصّصت لمناقشة مشروع الدكتورة زهور كرام، الكاتبة والأكاديمية المغربية، التي تُعد من أبرز الأصوات التي اشتغلت على الأدب الرقمي العربي تنظيراً وتحليلاً.

من التجريب إلى التأسيس

مشروع الكاتبة المغربية زهور كرام، الممتد منذ أكثر من عقدين، لا يمكن اختزاله في الاهتمام بالأدب الرقمي كتقليعة عابرة أو موضة فكرية، بل هو مسار فكري ومعرفي انتقل من "الكتابة التجريبية" إلى التنظير لـ"الكتابة الترابطية"، ومن البحث في تمفصلات النص الإلكتروني إلى اقتراح تصورات فلسفية للوجود الإنساني في العصر الرقمي. وقد جاء اختيار هذا المشروع كموضوع للندوة الأولى ضمن سلسلة “النقد في زمن الرقميات” تتويجاً لمسار غني ومتشعب، انطلق من مساءلة الأدب الورقي وتطوره البنيوي، وصولاً إلى تأصيل خطاب أدبي نقدي عربي مواكب لتحولات الكتابة التفاعلية والذكاء الاصطناعي.

في كلمته الافتتاحية، أشار الدكتور محمد هندي، منسق السلسلة، إلى أن زهور كرام لا تكتب من موقع المتفرج، بل من موقع الفاعل الثقافي الذي يسائل اللغة، والنص، والكاتب، والقارئ، في ظل بيئة رقمية أصبحت تعيد تشكيل الذائقة والمعنى، بل وتعيد رسم حدود الإبداع نفسه.

مفاهيم متجددة: الأدب الترابطي والذات الرقمية

الندوة لم تكن مجرد إشادة بالمشروع، بل قراءة معمقة للمفاهيم التي تقترحها زهور كرام في أعمالها، لا سيما في كتبها "الأدب الرقمي: أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية"، و"السرد من التجريبي إلى الترابطي"، وكتابها الجديد "الإنسانيات والرقميات في عصر الذكاء الاصطناعي". في هذه الأعمال، تبلور الباحثة مفاهيم جديدة مثل “الكتابة الترابطية”، و“الهوية الرقمية”، و“الذات التفاعلية”، وهي مفاهيم لا تُستورد من الخطاب الغربي كما هي، بل يُعاد صوغها في ضوء السياق الثقافي العربي، وخصوصيات اللغة العربية كنظام دلالي متعدد الأبعاد.

وفي مداخلة الدكتور عبدالرحمن المحسني، بدا واضحًا أن مشروع زهور كرام هو مشروع متكامل، يتقدم نحو التأسيس لا الاستعراض، ويرتبط بعمق بتحول تمثلات الإنسان لنفسه وللعالم من خلال الأدب. لقد أشار إلى أن مشروعها لا يكتفي بوصف الظاهرة الرقمية، بل يحللها في ضوء سؤال معرفي أعمق: ماذا يعني أن تكتب، وأن تقرأ، في زمن يكتب فيه الذكاء الاصطناعي ويقرأ الخوارزميات؟

وفي كتابها الأخير، تقف زهور كرام عند مفارقة عميقة: اليد التي كانت مركز الإبداع في الفن الكلاسيكي - كما في لوحة فان غوخ "آكلو البطاطس" - اختفت في صور الذكاء الاصطناعي لصالح “العقل الصناعي”. هذا التحول، كما تشير الباحثة، يستدعي ليس فقط تغيير أدوات التحليل، بل إعادة التفكير في معنى "الإنسان" في بيئة رقمية تهدد بتذويب الفرق بين ما هو إبداع بشري وما هو توليد آلي.

إعادة إنتاج الذات الرقمية

في مداخلته، ركّز الباحث أحمد مجاهد على المفهوم المركزي في مشروع زهور كرام: "إعادة إنتاج الذات في البيئة الرقمية". فالذات في تصورها لم تعد كينونة مستقلة بذاتها، بل أصبحت “تُنتج” من خلال ما تستهلكه وتنتجه من محتوى رقمي، وهي ذات ترابطية تتحدد بعلاقاتها مع البيانات والنصوص وعمليات التفاعل. من هنا، تتحول القراءة إلى فعل إنتاجي لا استهلاكي، والكتابة إلى حوار مع بنيات نصية مفتوحة، لا إلى سلطة لغوية مغلقة.

وتوقف الدكتور محمد الخولي بدوره عند “المواطنة الرقمية” بوصفها ركيزة جديدة في المشروع الفكري لزهور كرام، معتبرًا أن التعامل مع الذكاء الاصطناعي لا يجب أن يكون قائمًا على الرفض أو الاستسلام، بل على إعادة التفاوض مع التكنولوجيا بما يحفظ كرامة الذات الإنسانية. وهي دعوة ضمنية إلى بناء “أخلاق رقمية” تُسائل لا فقط محتوى النصوص الرقمية، بل أيضًا السياق الذي تُنتج فيه.

من الشعرية التفاعلية إلى مسؤولية النقد

واحدة من النقاط المحورية التي أثارها عدد من المتدخلين، خاصة الدكتورة رحاب رمضان، هي أن مشروع زهور كرام لا يظل في مدار التنظير، بل ينخرط بعمق في تحليل نصوص عربية رقمية تفاعلية، منها أعمال محمد سناجلة، وطارق القاعي. ومن خلال قراءتها لهذه النصوص، تحاول كرام تجاوز النظرة الشكلانية، وتُعلي من البعد الفلسفي للكتابة التفاعلية باعتبارها “بيئة تفكير”، لا مجرد منصة.

وقد شددت رحاب رمضان على أن هذه القدرة على الجمع بين التجربة النظرية والتحليل التطبيقي، هي ما يمنح مشروع كرام خصوصيته وقوته، ويجعله مؤهلاً لتأسيس مرجعية نقدية عربية في حقل الأدب الرقمي، بدلًا من التبعية المستمرة لمناهج وافدة لا تراعي الخصوصيات الثقافية المحلية.

في مواجهة الذكاء الاصطناعي: المثقف العربي أمام اختبار جديد

في ختام الندوة، قدّمت زهور كرام مداخلة قوية، مزجت فيها بين التوتر الفلسفي والموقف النقدي الصارم. قالت: "نحن لا نعيش فقط ثورة تكنولوجية، بل نعيش إعادة إنتاج الإنسان نفسه. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل هو خطاب جديد يُنتج اللغة والمعرفة والتمثلات". من هنا، دعت إلى ضرورة أن ينخرط النقد العربي في هذه التحولات، لا أن يبقى على الهامش.

وأكدت أن مهمتها كمثقفة لا تنحصر في الدفاع عن الأدب الورقي، ولا في الانبهار بالرقمي، بل في مساءلة اللحظة الحضارية ذاتها، وفي ابتكار أدوات تحليل جديدة، وإنتاج مفاهيم تلائم واقعًا لم نعد نملك ترف تجاهله.

نحو نقد عربي رقمي جديد

إن قراءة مشروع زهور كرام، كما تم تقديمه في هذه الندوة، تكشف عن لحظة نادرة من لحظات الانعطاف المعرفي في الثقافة العربية. لحظة يتقدّم فيها المثقف بمفاهيمه وأدواته وفكره، لا كمستهلك لما يُنتجه الغرب، بل كفاعل ومؤسس في بيئة ثقافية جديدة، متشابكة، مفتوحة، وتفاعلية.

إنه مشروع يتجاوز الأدب ليطال أسئلة الهوية، والمواطنة، والمعرفة، والإنسان. وبين كل هذه المفاهيم، تظل زهور كرام صوتًا نسائيًا فريدًا في المشهد الفكري العربي، يؤمن أن الكتابة ليست فقط فعلًا إبداعيًا، بل موقفًا وجوديًا في عالم يعيد اختراع نفسه كل لحظة.