الجميع ضالعون في مأساة غزة

المفاوضات بين إسرائيل وحماس، ووساطات مبعوث البيت الأبيض الأنيق، ليست سوى استعراض دبلوماسي أجوف.

المشاهد الإنسانية المروّعة التي تصلنا من غزة -مشاهد القتل اليومي على يد آلة الحرب الإسرائيلية النازية التي تقودها حكومة نتنياهو، بن غفير، وسموتريتش- والجوع الذي فرضته هذه الدولة النازية على سكان غزة، والمشاهد المؤلمة لأشخاص يتدافعون من أجل رغيف خبز يسكتون به آلام بطونهم الخاوية، لا للبقاء بل للانتظار يوما آخر على قيد الحياة، قد يكونون غير محظوظين لتُسلب أرواحهم على يد آلة القتل المتوحشة، كل هذه المشاهد لا تُحرّك ساكنًا لدى قادة الدول الغربية. فهؤلاء لا تحرّكهم مشاعر إنسانية لأنهم معدومو الضمير الإنساني، بل تحكمهم مصالح سياسية باردة تمليها عليهم الأنظمة التي يمثلونها.

ما نشهده اليوم في غزة لا يختلف كثيرًا عن مشاهد من أفلام الرعب، وكأن دراكولا العصر الحديث يتجوّل في الأحياء بين مباني غزة، يمتص دماء الأبرياء الفلسطينيين وسط جعجعة إعلامية منافقة صادرة من قادة الغرب دون طحين.

أكثر من 24 ألف عقوبة فرضتها الدول الغربية “الديمقراطية” ودعاة “حقوق الإنسان” على روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، بذريعة انتهاك "القانون الدولي" و"سيادة أوكرانيا"، وقتل المدنيين. في المقابل تواصل إسرائيل يوميا انتهاك القانون الدولي بعدم وقف الحرب وبناء المستوطنات وقتل العشرات من الفلسطينيين يوميًا منذ السابع من أكتوبر 2023، ومع ذلك يكتفي الغرب الأوروبي بتهديدات إعلامية باهتة بوقف تسليح إسرائيل، بينما لم تُفرض سوى عقوبات خجولة ومخزية على عدد من الشخصيات النازية في إسرائيل، التي لا تتجاوز كونها أدوات في خدمة دولة تمارس نازية مفضوحة.

لا القتل، ولا الجوع في غزة، ولا المشاهد الإنسانية المفجعة، ولا حتى نفاق قادة الغرب المحترفين في المراوغة السياسية، قادرة على وقف هذه المجازر. المفاوضات بين إسرائيل وحماس، ووساطات مبعوث البيت الأبيض الأنيق، ليست سوى استعراض دبلوماسي أجوف، لأن الأجندات السياسية المتضاربة تجعل من أي حل واقعي أمرًا مستبعدًا. أما ما يجري في غزة -ومع التعتيم المتعمد على الانتهاكات في الضفة الغربية- فليس في حسبان هؤلاء، ولا يشكّل أولوية ضمن حساباتهم.

بالنسبة إلى إسرائيل لا حاجة إلى الكثير من الشرح؛ فهي لم تكترث حتى لرهائنها، وطبقت بحقهم "إجراء هانيبال"، ولم تؤثر فيها صرخات عائلات الرهائن ولا تظاهراتهم. فكيف يُتوقع منها أن تكترث لقتل الأطفال الفلسطينيين بدم بارد، مع سبق الإصرار والترصد؟

ما يهم الدولة الإسرائيلية أمر واحد: أن حكومة نتنياهو المتجانسة داخليًا استغلت عملية السابع من أكتوبر كفرصة لتصفية القضية الفلسطينية، عبر تصفية سكان غزة، وتقويض مكتسبات الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والدوس على اتفاق أوسلو وبقية الاتفاقات والتعهدات الدولية، ومن تبقى منهم على قيد الحياة، فإما الخضوع الكامل والاستسلام وسلب الإرادة، أو الترحيل القسري.

أما الادعاء بأن ما يجري في غزة مدفوع فقط بمصالح نتنياهو الشخصية، فليس سوى هراء أو ضجيج لا يستند إلى الواقع. بل قد يكون وسيلة للتهرب من رؤية الحقيقة: ما يجري في غزة هو تجلٍّ لإستراتيجية إسرائيلية شاملة، ونتنياهو ليس سوى أحد منفذيها، وإن استفاد سياسيًا وشخصيا كتحصيل حاصل من تطبيقها.

والتناقضات بين ما يُروّج إعلاميًا عن نية ترامب وقف الحرب في غزة، وبين استمرار آلة القتل التي يقودها نتنياهو يوميًا، تفضح نفاق الإدارة الأميركية. فادعاء أن ترامب "داعية سلام" ليس سوى كذبة سياسية رخيصة. ترامب، ببساطة، لا يريد السلام بأي ثمن، لأن تحقيق إستراتيجية إسرائيل هو جزء لا يتجزأ من الإستراتيجية الأميركية في المنطقة. ومن يتتبع تطور الأحداث منذ ما بعد السابع من أكتوبر يلاحظ أن سياسة "الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط" قد تم التخلي عنها فعليًا. لأن إسرائيل ببساطة لعبت دورا كبيرا في إعادة الاعتبار والهيمنة الأميركية على المنطقة، واستطاعت أن تشكل جدارا لمنع التمدد الصيني والتوسع الروسي في المنطقة، وما نراه اليوم هو انخراط مباشر في دعم الأجندة الإسرائيلية، لاسيما في غزة. وما جنته إدارة ترامب من صفقات اقتصادية في المنطقة هو أحد تجليات دور إسرائيل ومشروعها الشرق الأوسطي.

وبالنسبة إلى حماس، فالإنسان مشروع استشهادي لا قيمة له، وقد عبر عنه قادتها في مؤتمر صحفي من الدوحة في الأيام الأولى لحملة إسرائيل على سكان غزة، بأن الأنفاق التي شيدوها هي لعناصر حماس، أما حماية سكان غزة من براثن إسرائيل فهي مسؤولية المجتمع الدولي. وفي حديث آخر قال خالد مشعل في مؤتمر صحفي، وهو رئيس حماس الخارج، بأن الضحايا الذين سقطوا هم خسائر تكتيكية؛ أي أن من يراهن على تحريك ساكن في حماس عنده معدل ذكاء منخفض جدا.

والحق يُقال إن حركة حماس تعيش اليوم على "خبز يومها"، دون أفق سياسي واضح للخروج من مستنقع غزة. فهي تواجه احتجاجات جماهيرية تطالبها بالرحيل، وتتعرض قيادتها للملاحقة والتصفية من قِبل إسرائيل، كما تواجه ضغوطًا دولية متزايدة وتجريدها من سلاحها ومكانتها السياسية.

إنها تمرّ بواحدة من أحلك مراحلها، وقد تحوّل السابع من أكتوبر من لحظة مفصلية إلى عبء ثقيل عليها، بصرف النظر عن التصريحات المتفاخرة والشعارات الرنانة التي تروَّج عبر الفضائيات.

وأخيرا إن الجرائم اليومية التي يندى لها جبين الإنسانية، فتحت آفاقًا جديدة لمواجهة دولة إسرائيل وسياسة النفاق الغربي، ودموع التماسيح التي يذرفها قادة مثل ستارمر البريطاني، وماكرون الفرنسي، وكارني الكندي.

هذا الطريق الجديد بدأ يشقه عمّال الموانئ والنقابات والمنظمات العمالية، من خلال مواقف تضامنية حقيقية: إذ امتنع عمّال الموانئ في السويد، منذ ديسمبر الماضي، عن تحميل الأسلحة المتجهة إلى إسرائيل، وسار على النهج ذاته عمّال موانئ إسبانيا، وعمّال ميناء طنجة في المغرب. كما قرر مؤتمر اتحاد عمّال النرويج مقاطعة إسرائيل، وصولًا إلى الرسالة الجريئة التي وجهتها كبريات اتحادات عمال النفط في البرازيل مطالبة بوقف إمدادات الطاقة إلى إسرائيل.

إن هذه المبادرات الجبارة وتوسيع رقعة التضامن العمالي مع الشعب الفلسطيني عبر جبهة عمّالية ضاغطة على حكوماتها تشكلان اليوم الخيار الأهم، وربما الأخير، لمواجهة غطرسة إسرائيل ووحشيتها، المدعومة من قِبل أنظمة غربية متورطة بشكل مباشر أو غير مباشر في دعم آلة الحرب النازية الإسرائيلية.