الحداثة تحول جدة التاريخية إلى ساحة رقص وموسيقى

التغيرات الحاصلة في مدينة جدة السعودية تمزج الأجواء التاريخية بالعصرية، لتعكس حالة الانفتاح التي تعيشها المملكة في السنوات الأخيرة.

جدة (السعودية) - على خشبة مسرح في الوسط التاريخي لمدينة جدة السعودية، تجمّع حشد من السعوديين، محيطين بمغني الراب "تاي دولا ساين"، متفاعلين مع أغانيه وأسئلته الجريئة أحيانا بالنسبة إلى المجتمع السعودي المحافظ.

وسلط أداء تاي في أقدم أحياء جدة المعروف باسم "البلد"، إلى جانب فنانين مثل وو تانغ كلان ومايجور لايزر، الضوء على الجهود المبذولة لتغيير وجه الموقع المُدرج على لائحة التراث العالمي لليونسكو، وجعله أكثر استقطاباً للشباب السعوديين والأجانب.

وتفاعل المغني الأميركي ذو الشعر المجدول والبالغ من العمر 41 عاما، واسمه الحقيقي تايرون وليام غريفين جونيور، مع جمهور حفله في مهرجان "بلد بيست" (Balad Beast) الموسيقي الذي بدأت المملكة بتنظيمه قبل بضع سنوات.

وكان مشهدا مثيرا للدهشة في المملكة التي سمحت للمرة الأولى بإقامة مهرجانات يمكن حضورها من الجنسين على نطاق واسع قبل نحو خمس سنوات فقط.

وبعيدا عن فعاليات "بلد بيست"، تشهد المنطقة التي تبلغ مساحتها 2.5 كيلومتر مربع، تحولاً كبيرا من خلال افتتاح عدد كبير من المقاهي والمتاحف ومساحات تقديم العروض وورش العمل للفنانين والحرفيين.

وفي إطار مشروع "رؤية 2030" الطموح لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الساعي إلى تطوير وتنويع مصادر اقتصاد بلاده، أكبر مصدّر للنفط الخام في العالم، تهدف السلطات إلى بناء ثلاثة آلاف غرفة فندقية جديدة في "البلد"، في إطار محاولتها جذب ملايين السياح.

ويقر المقيمون في جدة بأنهم يشعرون ببعض القلق حيال التغييرات في حيّ يرتبط بقوة بموسم الحج السنوي وأسواق رمضان التقليدية.

ولكن سيل المحتفلين الذين احتشدوا أمام أربعة مسارح توزعت في جدة خلال مهرجان "بلد بيست"، وبعضهم لوّن وجهه بطلاء برّاق وحمل عصيا مضيئة، لم يعكس بتاتا مثل هذا القلق.

وقال المغني الأميركي تاي "في كل مرة آتي إلى السعودية، أشعر بأجواء إيجابية".

وبرزت "البلد" في القرن السابع كمركز للحجاج والتجار. وغزا الحاكم المؤسس للمملكة العربية السعودية الملك عبدالعزيز مدينة جدة في عشرينات القرن الماضي.

وفي العام 1947، دفع النمو السريع السلطات إلى هدم الأسوار المحيطة بـ"البلد"، ولا تزال بعض بوابات السور صامدة، وكذلك المباني الحجرية المرجانية المميزة في وسط المدينة، والتي يحتوي العديد منها على شرفات مبنية من خشب الساج المشبّك.

وأدرجت منظمة اليونسكو "البلد" على لائحة التراث العالمي في العام 2014. وفي العام 2018، بدأت جهود "التنشيط" التي تشرف عليها وزارة الثقافة.

اليوم، تحمي الحواجز الخضراء التي أقامتها الوزارة أعمال الترميم في الفيلات والمساجد والأسواق التي يعود تاريخها إلى قرون مضت والمعروفة باسم الأسواق.

وقال علي عاصي منسق الأغاني اللبناني الملقب بـ"لوش" والذي يعيش في جدة منذ 20 عاما، إن الجدول المتنامي للمهرجانات والمعارض الفنية أنعش الحيّ، واجتذب الناس الذين قد لا يكون لديهم اهتمام كبير به.

وأضاف "لولا مهرجان +بلد بيست+ والفعاليات الأخرى التي تُقام الآن، لم يكن أحد من الجيل الجديد سيأتي إلى البلد. كانوا سيذهبون إلى الشاطئ"، متابعا "ليسوا مهتمين بتلك المحلات التجارية القديمة".

ورغم ذلك، بالنسبة إلى بعض السكان المسنين، فإن الإضافات الجديدة يمكن أن تكون مزعجة، وفق عاصي، مشبّها هذا الحذر بحذر الجدّة التي ترفض التخلي عن كرسيّها المفضل حتى إن تحطم.

وأردف أنها "لن تسمح لك أبدا بإزالته أو رميه بعيدا، حتى لو كان محطمّا إلى أجزاء… إنه كرسيها. إنه الشيء نفسه".

وأفادت المرشدة السياحية السعودية عبير أبوسليمان أن معظم الناس كانوا متحمسين لمستقبل "البلد"، مضيفة أن الذين ليسوا كذلك "يمكنهم البقاء في المنزل. الأمر سهل وبسيط".

ويتغذّى النقاش حيال ما يحدث في "البلد" جزئيا من التغيرات الأوسع الحاصلة في جدة.

ومن المتوقع أن يؤدي مشروع إعادة تطوير عقاري قيد التنفيذ بقيمة عشرين مليار دولار، إلى نقل نصف مليون شخص من المنطقة.

وتطرح السلطات المشروع باعتباره بديلاً عن العشوائيات، مع وسائل راحة على غرار استاد وحوض أسماك ودار أوبرا في المشروع الجديد.

إلا أن بعض السكان المتضررين اشتكوا من أنهم لا يعرفون كيفية طلب تعويضات، ويشعرون بامتعاض جراء تصوير أحيائهم من السلطات على أنها أوكار مخدرات وجريمة.

ولفتت أبوسليمان إلى أنها لا تشعر بالحزن على الأحياء التي مُحيت، وغالبيتها بعيدة عن وسط المدينة التاريخي، متوقعة أن يتم استبدالها بما هو أفضل.

وأضافت "أنا سعيدة للغاية بأنها ولّت. كانت عبارة عن مناطق غير مخططة… لا مدارس ولا حدائق ولا عيادات. حتى أنّ بعض الأشخاص شيّدوا منازلهم من دون أن يتملّكوا الأرض".

وتفضّل أبوسليمان التركيز على مظاهر الحياة الجديدة في "البلد"، على غرار أولئك الذين احتفلوا حتى وقت متأخر ليلاً في "بلد بيست".

وقال عبدالرحمن الحبشي (20 عاما)، وهو طالب جامعي كان يحضر الحفلة، "أنا مثلا أحبّ أن أرتدي ملابس من الطرز القديم. الأمر ذاته يحدث هنا... لدينا أبنيتنا القديمة، ومعها نفحة حداثة".

وشدد منسّق الموسيقى عدنان منجل المولود في جدة متحدثا عن تطوّر "البلد"، على أن رؤية المكان وهو "يتحوّل لا إلى موقع تراثي على قائمة اليونسكو فحسب، بل أيضا إلى حلبة رقص، رؤيته بأوجه مختلفة" هو "أمر رائع".

ويعكس هذا التطور حالة الانفتاح التي تعيشها المملكة في السنوات الأخيرة بفضل الإصلاحات التي يقودها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ضمن رؤية "السعودية 2030"، والتي ساهمت في تنظيم فعاليات ترفيهية وثقافية.