الخطاب الفرنسي: بين معاداة السامية الجديدة والقديمة

تعود فرنسا لصدارة المشهد الثقافي الأوروبي مجددا على حساب العرب؛ تعود لتؤكد أن غياب نظرية عربية مصحوبة بخطاب معرفي مبادر سيظل دائما وأبدا هو حائط الصد الغائب، تعود فرنسا بأطروحة نظرية جديدة إن لم نلتفت لها الآن سوف تصبح سوطا ناعما يلهب ظهر الثقافة العربية المتعب بعد عدة سنوات، فرنسا تقدم أطروحة جديدة تحت اسم "معاداة السامية الجديدة"، وسبق أن حذرت مما قدمه سارتر الفيلسوف الفرنسي الأشهر حين ربط بين "معادة السامية القديمة" في أوروبا وبين الصراع العربي الصهيوني في أربعينيات القرن الماضي، واعتبر من يرفض الصهيونية "معاديا للسامية".

مفهوم معادة السامية الجديدة ومقوماته

أصدرت النخبة الفرنسية بيانا عبر صحيفة "لو باريزيان" بعنوان "ضد معاداة السامية الجديدة"، هذا البيان على صغره إنما هو بالفعل مشروع نظري محبوك الصنعة للغاية، يقول البيان أن معاداة السامية الجديدة قوامها كراهية المسلمين لليهود (يهود فرنسا تحديدا)، وتستند لنصوص دينية لتبرير هذه الكراهية المدعاة، لتمارس العنف والعنصرية ضد اليهود المقيمين في فرنسا، ويستند البيان لبعض النماذج والوقائع المعاصرة في خلال الألفية الجديدة بفرنسا ليدلل على طرحه.

مفهوم معاداة السامية القديمة ومقوماته

معاداة السامية القديمة او التاريخية في أوروبا كان قوامها كراهية المواطن الأوروبي المسيحي للوجود اليهودي وما يصحبه من نفوذ وممارسات غريبة على مسيحي أوروبا، بما جعل الأوروبيين في خلال العصور الوسطى ووصولا للعصر الحديث يمارسون نوعا من الاضطهاد على يهود أوروبا بحجة ان اليهود هم قتلة المسيح وان الخراب يرتبط بهم دائما، بما جعل أوروبا تشهد مجموعة من الوقائع أدت لطرد اليهود من عدة بلدان أوروبية قديما، فيمكن القول إجمالا أن عداء سكان أوروبا المسيحيين للأقلية اليهودية هناك، أخذ شكله الواضح في العصور الوسطى وبعد خروج يهود الأندلس منها بسبب الاضطهاد والتشدد المسيحي، وما ارتبط منه أيضا بالحملات الصليبية، وفي العصر الحديث طور هتلر نظرة عرقية عنصرية بحتة لليهود كجنس أقل يجب التخلص منه، فارتبطت معاداة السامية في الذاكرة الأوروبية القريبة بالنازية وموقف هتلر العنصري ومشروعه لاستئصال الوجود اليهودي في أوروبا.

سارتر وذاكرة معاداة السامية في فرنسا

غير أن سارتر كان له السبق في كتابه "تأملات في المسألة اليهودية" في التأصيل لأزمة يهود فرنسا ومعاداة السامية في فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية وموقف الحكومة الفرنسية الموالية للألمان من الممارسات النازية ضد اليهود أثناء الحرب، غير انه ربط بين معادة السامية القديمة في أوروبا وبناء الجسر بينها وبين الصهيونية، حين اعتبر أن رفض الصهيونية ورفض هجرة يهود أوروبا لفلسطين يعد عملا بربريا أقرب للنازية ويحسب على معاداة الصهيونية! واعتبر أن مجموعة الممارسات التي لا تؤكد على حق عودة يهود فرنسا المهجرين بعد الحرب او حقهم في الهجرة واحتلال فلسطين عملا عنصريا يعتبر معاداة للسامية ومساويا للنازية.

أوجه الشبه بين طرح سارتر والبيان الجديد

وتكاد تكون الثقافة الفرنسية تعيد إنتاج نفسها بعد حوالى سبعة عقود من الزمان، تكاد تكون الظروف نفسها التي قدمها سارتر في أطروحته، هى ذاتها التي اعتمدها المثقفون الجدد في فرنسا ليصدروا البيان، وهذا الظروف تقوم على الموقف المركزي تجاه الذات والموقف الهامشي تجاه الآخر، حيث أولا، كانت مركزية الحالة الفرنسية وتطبيق الفكرة على الواقع الفرنسي قديما في حالة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي فرنسا حديثا طبقت على الواقع أيضا في حالة ما بعد الثورات العربية في القرن الجديد وتراجع النموذج؛ وثانيا، إهمال الآخر العربي وسياقه قديما حيث لم يضع سارتر عرب فلسطين في حسبانه وسلبهم الحق الوجودي في الحياة في معاداة السامية القديمة ودعم توطين يهود أوروبا في فلسطين واحتلالهم لها، وكذلك حديثا لم يضع مثقفو فرنسا الجدد عرب فرنسا وما يتعرضون له من تهميش وصورة نمطية مسبقة في الحسبان، وأثر الصورة النمطية لـ"الإسلاموفوبيا" عليهم وما قد يحيكه اللوبي الصهيوني ضدهم من فخاخ، ليصبح بيت القصيد في الحالتين مركزية الذات الفرنسية (الأوروبية) وسياقها وتهميش الآخر (العربي) وسياقه.

الاختلاف بين الحالتين: استدعاء الديني

لكن الذي أضافه مثقفو فرنسا الجدد في الحالة الراهنة والتأسيس لـ "معادة السامية الجديدة" وربطها الصريح بالعرب والمسلمين، هو استدعاء الذاكرة الدينية للمسألة مع التأكيد أيضا على الذات المركزية الأوروبية وسياقها الخاص، حين طلب البيان من المسلمين أن يقوموا بما يشبه التنصل من بعض الآيات القرآنية التي يرون أنها تحض على معاداة السامية، قياسا على ما فعلته السلطة الدينية قديما في الحالة الأوروبية لمعاداة السامية حن أوقف الفاتيكان بعض الممارسات أو الصلوات أو الأدعية أو الفقرات التي تحض على العنف ضد يهود أوروبا.

وهنا يظهر الإملاء واعتبار الذات الفرنسية/الأوروبية لنفسها كمركز للكون، وعلى الجميع/الآخر أن يراعي ما تشعر به وما يعتريها من تصورات، بغض النظر عن السياق التاريخي لذلك الآخر وما قد تكون تلك الذات الأوروبية المتعالية قد مارسته من ظلم وعدوان واستغلال تجاهه، فما ذنب العرب كي تحل أوروبا مشكلتها مع معاداة الصهيونية القديمة على حسابهم، وحين يعلن العرب المقاومة ودفاعهم عن حقهم الوجودي في الحياة ضد هيمنة الصهيونية، ربما في تظاهرة ما تجوب أوروبا أو فرنسا لتعلن الرفض لبعض الميول الصهيونية ليهود أوروبا، تعلن أوروبا/فرنسا في المقابل أن العرب برابرة معادين جدد للسامية!

مركز حضاري عربي جديد

الثقافة الأوروبية تثبت مجددا وهم ادعاءات احترام الآخر وقبوله، ودعائية ما تطرحه الأكاديميات الغربية في كلاسيكياتها ومستجداتها، وتثبت أنه لن تخرج نظرية ذات وزن معتبر به في الواقع من أوروبا لتعترف بحق حضارة أخري في الحياة وفق سياقها وهويتها، ويظل الحلم العربي بخروج نظرية معرفية ونموذج حضاري مبادر يقتحم خضم "التدافع الحضاري" الراهن، ويرى في طبيعية أن يخرج نظام معرفي جديد مرتبط بالثورات العربية، وثورتها القيمية البحتة اعتمادا على "القيم الإنسانية العليا"، ليصبح المركز الحضاري الجديد عربيا، بما يدفع أزمات المركز الأوروبي القديم للتقهقر والتفكك من تلقاء نفسها، بما في ذلك الصراع مع الصهيونية والتطرف العربي واللجوء للعنف في مواجهة الهيمنة، الحل لن يكون أوروبيا أبدا هكذا تخبرنا سنن التاريخ، بأن ما تخلِّفه حضارة ما من مشاكل وأعراض جانبية، لا ينتهي سوي ببزوغ مركز حضاري جديد.

نقد الخطاب العربي ردا على البيان

اعتمد معظم الخطاب العربي وتحديدا في البلاد العربية، على العاطفة الدينية ورفض تدخل الفرنسيين في شئون الدين الإسلامي (وهو حق طبيعي وعاطفة مبررة تماما)، لكن لم يتجاوز خطاب الداخل العربي منطق الرد فعل ولم يبادر أحدهم بتبني مبادرة علمية ومعرفية للرد على "الخطاب المعرفي" المدمج بين سطور البيان، لم تلتفت النخبة العربية السائدة مجددا لمتن الأزمة وانصرفت لهامشها، لم تشاهد سوى العرض ولم تبصر المرض وأصل الداء الفرنسي/الأوروبي.

وتبقى الذات العربية أسيرة لسياق القرن الماضي والاستقطاب بين فرق الدين السياسي ودعاة العلمانية والماركسية، ويظل المشروع العربي رهنا بتجاوز ذلك التناقض التاريخي الذي يمكن إعداد نموذج معرفي، يَدْرسُ كل لحظات البلاد المفصلية لنكتشف أن السلطة التقليدية في العالم العربي، كانت توظف هؤلاء وأولئك لتفر من ظرفية تشكل تيار بديل، يعبر عن لحظته التاريخية الحاسمة، ونموذج الثورة المصرية خير دال، على إدارة التناقضات وتوظيف البنية السلطوية التقليدية القديمة لليسار واليمين وضربهم بعضم ببعض، لتخرج هي محافظة على مواقعها التاريخية وتثبت المجتمع على حاله.

ضرورة تطور خطاب عربي للرد على معاداة السامية الجديدة

رددت على سارتر في دراسة مطولة بعنوان "سارتر بين الصهيونية وسلب الحق الوجودي للفلسطينيين"، أتمنى لو تترجم قريبا للفرنسية والإنجليزية، والحقيقة أنني رأيت في خطاب عرب أوروبا/فرنسا مؤشرات على وعي مبشر بسياق الأزمة، ويظل الدور العربي المؤسسي المنتظر في دعم وجود القوة الناعمة العربية في أوروبا/فرنسا وإنشاء المراكز العربية الثقافية هناك، ومدها بالكتب والدراسات المترجمة التي تؤكد على صورة الذات العربية الحقيقية ووجهة نظرها، وتصحح الصورة النمطية الموروثة في العقلية الأوروبية، علينا أن نكون في الموعد على استعداد للمواجهة المضادة، وفي المركز من ذلك العرض تقع "دراسات التدافع الحضاري" ونموذج "الثورة القيمية الحضارية" التي احتفى بها العالم، وصارت في حينه مضربا للأمثال وموضعا للتقليد والتكرار في كل مكان.

ختاما،ليس من حق أوروبا أن تمارس إسقاط عقدها القديمة على العرب وكأنهم الحائط المائل بلا إرادة أو وجهة نظر بديلة، ولا يمكن أن تستمر الثقافة الفرنسية/الأوروبية في البحث عن تطهرها وخلاص الذات الأوروبية من عقدها وما مارسته تجاه يهود أوروبا على حساب العرب والمسلمين، لقد أسس سارتر طقسا في مخيلة الثقافة الفرنسية/الأوروبية يعتبر العرب مجرد هامش للمتن الأوروبي وكبش فداء، وحتى ينفي العرب عنهم تلك الصفة يجب أن نتحرك بالعدة والعتاد لمخاطبة الآخر في عقر داره، ونمارس دور الثقافة الفاعلة ونتوقف عن ثقافة الرد فعل والتحسر على الحال وسوء المآل.