الخطيئة والاعتراف والمغفرة

المسؤولون اللبنانيون وكبار السياسيين والمتنفذين يقصفون اللبنانيين بالبكائيات بدلا من تقديم الحلول.

تعود إلي صورة يسوع على الصليب وقد عطش إلى نقطة ماء، فتقدم جندي يهودي "وأخذ إسفنجة وملأها خلا وجعلها على قصبة وسقاه" ليزيد مرارة عذاباته. المسؤولون ـــ وأي مسؤولين! ـــ عوض أن يهدوا الشعب اللبناني المعذب والعطشان نقطة ماء في مطلع السنة الجديدة، قصفوه بوابل الإطلالات البكائية، والخطابات العدائية، والمؤتمرات المتأخرة، والتصاريح الـملفقة، والسجالات المضللة غير عابئين بمعاناته. بـم نصف هذا التصرف؟ قلة مسؤولية؟ قلة وطنية؟ قلة حياء؟ قلة ذوق؟ قلة إحساس؟ قلة مبالاة؟ قلة شفقة؟ هذا فائض من كل ذلك. أهل الفيلق لا يعتبرون اللبنانيين مجموعة بشرية تتمتع بمشاعر، بل مجموعة أحجار جامدة يتراشقون بها. أهل الفيلق، حتى لو اختلفوا في ما بينهم، سرعان ما يتفقون ما أن يشعروا بأن اختلافاتهم تعرض أمن منظومتهم. وهذا ما حصل أمس حين تبادلوا ــــ مبدئيا ـــ انعقاد مجلس الوزراء بفتح دورة استثنائية للمجلس النيابي.

بين نهاية 2021 وبداية 2022، كان الشعب المتعب يخترع الآمال ويختلق الرجاء، حتى أنه زور الأفراح وضحك على نفسه بحثا عن هدنة نفسية. لكن فيلق السلطة أعاده إلى سجن السنوات الخمس المنصرمة، وأكد له أن السادسة لن تكون استثناء، و"أنت في جهنم وفي جهنم ستبقى". وددت لو أن أحد أركان الفيلق حدث الناس عن الناس. أخبرهم عن تصوره للسنة المقبلة، عن المستقبل والمصير، عن كيفية الخروج من الأزمة، عن مصير أموالـهم المسروقة، عن مصالحة الدولة مع الناس لا عن حوار عقيم بين أهل الفيلق. وددت لو جال رئيس الجمهورية في المناطق وحاور اللبنانيين مثلما فعل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، سنة 2020 بعد تظاهرات "القمصان الصفراء".

هذه الأيام تنتشر عبارة "الكرامة" بين أهل السلطة ويتذرعون بها ليرفضوا جميع الحلول والتسويات بين اللبنانيين، وبين اللبنانيين ودول العرب والعالم. يتحدثون عن الكرامة وهم الذين انتهكوا كرامة اللبنانيين ورأسهم العالي. يتحدثون عن الكرامة وهم تنازلوا عن كراماتهم أمام ولاتهم وأوليائهم وولاءاتهم. وفاقد الشيء لا يعطيه. قد تغفر الشعوب أخطاء حكامها وزعمائها لكنها لا تغفر لمن انتهك كرامتها الشخصية والجماعية. ولا أرى اللبنانيين يشذون عن هذه القاعدة، هم الذين لاذوا فرادى وجماعات إلى جبال لبنان من أجل الحرية والكرامة.

والطريف أن أهل السلطة، بل أهل الفيلق، يلتمسون براءة ذمة من دون تقديم كشف حساب إلى الشعب. المغفرة تتطلب الاعتراف فأين اعترافكم؟ والاعتذار فأين اعتذاركم؟ والندم فأين ندمكم؟ والتواضع فأين تواضعكم؟ والجرأة فأين جرأتكم؟ والمحبة فأين محبتكم؟ والصدق فأين صدقكم؟ اقترفتم بحق الشعب والوطن جميع الخطايا والذنوب بوعي وعن سابق تصور وتصميم، وتتوقعون مسامحة الشعب؟ لستم "الابن الشاطر"، ولا الشعب والدكم ليذبح لكم العجل المسمن. ليس لدى الشعب عجول لكم، بل نفور منكم وثورة عليكم.

العودة عن الخطأ فضيلة حين تكون وليدة قناعة وطنية لا نتيجة حسابات انتخابية، وحين يكون هدفها إنقاذ الوطن لا إنقاذ الذات. و"العودة عن الخطأ فضيلة" ليست قاعدة تصلح في كل الحالات. ما قيمة العودة عن الخطأ ـــــ وأصلا ما عاد أحد عنه بعد ـــــ وما فائدتها بعد ارتكاب الجريمة وخراب لبنان، بعد انفجار المرفأ وتدمير بيروت، بعد سقوط الليرة اللبنانية وانهيار الاقتصاد، بعد إفقار الشعب وتهجير الشباب والعائلات، بعد الانقلاب على النظام وعزل لبنان؟ هذه الارتكابات تتطلب محكمة لا مغفرة.

هذا الموقف ليس موجها إلى مسؤول واحد، إنما يشمل الذين شاركوا بشكل أو بآخر في أن يبلغ لبنان القعر الأسفل. فأهل الفيلق هم أهل السلطة والسياسيون والأمنيون والهيئات الاقتصادية وأصحاب المصارف. كانوا جميعا أعضاء فاعلين في منظومة الارتهان والفساد والانهيار. ما اختلفوا إلا على المغانم وما تفرقوا إلا ليغسلوا أياديهم من الجرائم. كل واحد منهم ظن نفسه رئيس جمهورية وحاول ممارسة دور الرئيس. ظنوا لحظتهم أبدية وعهدهم سرمديا.

ومن ضاهى الجميع سطوة ونفوذا وإمرة ومارس دور رئيس الرؤساء كان حزب الله. لم يلعب دور القوي الذي يتآلف مع الآخرين، بل دور المستقوي على الآخرين. وجد الساحة مشرعة أمامه: سلاح على مد النظر، شرعية تغطيه، معارضة تتفرج عليه وتترقب منقذا، ومجتمع دولي يتسلى بفرض عقوبات عبثية. المشكلة أن المجتمع الدولي يرفض جمهورية حزب الله ولا ينقذ الجمهورية اللبنانية. كل يوم يتأكد هذا الواقع، ومعه تتأكد استحالة تغيير مشروع حزب الله وموقفه تجاه لبنان واللبنانيين والعرب والعالم. وكل يوم يتبين أن العيش المشترك اللبناني في صيغته الحالية يستفيد منه مناهضوه أكثر من المؤمنين به. هكذا كان يحصل حين كانت الأحزاب التوتاليتارية والدينية تستغل النظام الديمقراطي والعلمنة في الدول غير الشيوعية لتصل إلى الحكم وتسقط الديمقراطية والعلمنة.

إن السكوت على مشروع حزب الله حرصا على العيش المشترك ووحدة لبنان المركزية سيخسرنا العيش المشترك ووحدة لبنان ولبنان. لكن المعضلة هي أن معارضي حزب الله متفقون على رفض مشروعه ومختلفون على مشروع لبنان الجديد. ولأن الخطر الوجودي صار داخل الدار، هناك لبنانيون قرروا تجاوز هذه المعضلة والسير في خيار لبنان التعددي بمفهومه الدستوري لا التنوعي فقط. اختاروا كيان لبنان في ظل نظام ديمقراطي برلماني مدني حيادي، ولامركزية موسعة تشمل الإدارة والإنماء والمال والتربية والأمن. وإذا كان البعض يعتبر، من دون قناعة، هذا تقسيما بغية السيطرة على كل البلد بالعدد و/أو بالسلاح، فنحن نعتبر واقع لبنان الحالي هو التقسيم بعينه.

لا عودة عن هذا الخيار لا اليوم ولا غدا، أبقي سلاح حزب الله أم نزع منه. اليوم سلاح حزب الله وغدا يطل سلاح آخر وصراع آخر وولاء آخر. لم ننس الماضي القريب بعد. والذين يتدلعون على هذا الخيار يرتكبون خطيئة كبرى بحق أنفسهم وبحق لبنان. فالتمسك بالصيغة المركزية يبقي لبنان في أزمة دائمة تحت سيطرة حزب الله، أو يدفع بالبلاد نحو التقسيم القسري. نحن قررنا أن ننقذ لبنان بدءا بإنقاذ أنفسنا إذا استمر الخلاف على النظام البديل.