الخيار الوحيد امام "حماس"

فجأة اكتشفت "حماس" ان الوضع لم يعد يطاق في غزّة.

حسنا، القت "حماس" ما يزيد على الف فلسطيني في النار الإسرائيلية. قُتل هؤلاء الفلسطينيون في يوم واحد في سياق خطأ في الحسابات ينطلق من الاعتقاد المبني على ان التضحية بعشرات الفلسطينيين وجرح المئات سيؤدي الى زلزال في المنطقة. اكثر من ذلك، سيؤدي هذا الزلزال، من وجهة نظر "حماس"، الى فكّ الحصار عن قطاع غزّة، وهو حصار طال ما يزيد على عشر سنوات.

مرّة أخرى اثبتت إسرائيل انّها تمارس إرهاب الدولة من دون حسيب او رقيب. استغلت اقتراب فلسطينيين من الحدود الدولية لقطاع غزة وسعيهم الى تجاوزها لتثبيت "حق العودة" كي يقتل قنّاصون بدم بارد العشرات ويجرحون المئات. المؤسف انّ العالم بقي متفرّجا على ما يجري. يبدو هذا العالم مستعدا للبقاء متفرّجا لسنوات طويلة أخرى.

كانت حسابات "حماس" وأولئك الذين يقفون خلفها تميل الى الاعتقاد ان تلك المجزرة، وهي بالفعل مجزرة، ستكون حدثا كبيرا يطغي على كلّ ما عداه في المنطقة. ما دفع الى هذه الحسابات المضحكة – المبكية انّ التحرك "الحمساوي" جاء في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تفتتح سفارتها الجديدة في القدس عشية ذكرى "النكبة".

مرّت سبعون سنة على "النكبة" وستمرّ سبعون أخرى ولن يطرأ جديد في غياب القدرة لدى الفلسطينيين على فهم الواقع القائم والتعاطي معه كما هو. لم تنفع "حماس"، الساعية الى رفع الحصار عن غزّة، دماء الذين قتلوا مجانا. لم تنفعها الحماسة الايرانية الى اختلاق بؤر للتوتر في المنطقة كي تظهر طهران انّها تمتلك أوراقا كثيرة، من بينها الورقة الفلسطينية. لم تستوعب "حماس" ان كلّ ما تريده ايران هذه الايّام هو اظهار قدرتها على التفجير هنا او هناك او هنالك كي تقول للإدارة الاميركية انّ هناك ثمنا لانسحابها من الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني.

لم تنفع "حماس" تلك الاندفاعة التركية من اجل التضامن مع الذين سقطوا في غزّة. لو كانت تركيا تستطيع عمل شيء لغزّة، لكانت نجحت في فكّ الحصار الذي يتعرّض له القطاع في العام 2010. أرسلت وقتذاك سفنا من اجل خرق الحصار. كانت النتيجة اعتداء إسرائيل على هذه السفن، وبينها واحدة تحمل اسم "مرمرة". سقط قتلى اتراك كانوا على "مرمرة" التي ما لبثت ان عادت ادراجها. غضبت تركيا وما لبثت ان هدأت. قطعت العلاقات مع إسرائيل ثمّ اعادتها. لم يتغيّر شيء. لم يتزحزح الحصار على غزّة قيد انملة. كلّ ما في الامر انّ رجب طيب اردوغان، اسير الايدولوجية المتخلّفة للاخوان المسلمين، يتصرّف انطلاقا من حسابات شخصية وأخرى مرتبطة بوضعه الداخلي. ليست غزّة سوى مكان يمارس فيه الرئيس التركي لعبة المزايدة التي حدت به الى الدعوة الى قمّة إسلامية لم تقدّم ولم تؤخر نظرا الى ان لا مجال لاتخاذ أي إجراءات عملية من اجل فكّ الحصار عن غزّة حيث وضع لا يطاق.

أسوأ ما في الامر ان "حماس" فعلت كلّ شيء من اجل ان يستمرّ الحصار الإسرائيلي على غزّة. لم تكن مهتمة يوما بمصير الفلسطينيين اهل القطاع الذين يعانون من الامرّين. كلّ ما كانت تريده هو تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني ونمط عيش الفلسطينيين. اقامت في غزّة، بفضل سلاحها الذي لم يخدم يوما سوى إسرائيل، امارة إسلامية على الطريقة الطالبانية.

فجأة اكتشفت "حماس" ان الوضع لم يعد يطاق في غزّة. صار هذا الوضع لا يطاق عندما صارت سلطتها مهدّدة وصارت مضطرة الى البحث عن مخارج من المأزق الذي وجدت نفسها فيه. ظنت ان المصالحة مع "فتح" ستؤمن لها المخرج. فشلت هذه المصالحة فشلا ذريعا بعدما رفضت "حماس" التخلي عن سلاحها وبدأت الآن تلوم رئيس السلطة الوطنية محمود عبّاس (أبو مازن) على عدم قدرته على إعادة لم الشمل الفلسطيني بسبب الضغوط الاميركية. لا تريد "حماس" الاعتراف بان لا وجود لمثل هذه الضغوط الاميركية. ما الفارق لدى إدارة ترامب اذا تصالحت "حماس" و"فتح" او لم يتصالحا. فضلا عن ذلك، ان مرحلة "أبو مازن" انتهت بعدما تبيّن انّ القيادة الفلسطينية انتهت الى هيكل عظمي ولم يعد فيها من يفكّر الى ابعد من يومه. لم يجد "أبو مازن" ما يردّ به على الصلف الاميركي، خصوصا في ضوء قرار نقل السفارة الى القدس، سوى زيارة دولة مفلسة سياسيا واقتصاديا اسمها فنزويلا. هل من سياسة فاشلة تتسم بقصر النظر اكثر من هذه السياسة؟

لا وجود لقيادة فلسطينية تستطيع إعادة اللحمة بين الضفّة وغزّة. لم يعد من مخرج لدى "حماس" التفكير في كيفية مدّ الجسور مع مصر التي ليست مستعدة لان تنسى بسهولة الدور الذي لعبته الحركة في مجال التدخل في شؤونها الداخلية من جهة وتوفير مأوى للإرهابيين وكلّ المتطرفين الذين يتحركون في سيناء من جهة اخرى.

لو كان في "حماس" رجل واحد يمتلك صفات قيادية حقيقة، لكان على هذا الرجل الاعتذار من الشعب الفلسطيني والاعتراف بانّ كلّ المشروع "الحمساوي" انتهى الى غير رجعة. كلّ ما في الامر انّ "حماس" اضاعت كلّ الفرص التي توافرت من اجل تحويل قطاع غزّة الى نواة لدولة فلسطينية يمكن ان تشكّل نموذجا ناجحا لما يمكن ان تكون عليه دولة فلسطينية مستقلّة "قابلة للحياة" تضمّ الضفّة والقطاع.

انسحبت إسرائيل من قطاع غزّة بالكامل في آب – أغسطس من العام 2005. بدل ان تساعد "حماس" في بناء مؤسسات لدولة، نشرت فوضى السلاح والقطاع وبدأت تتحدث عن "تحرير فلسطين". لم تكتف بانقلاب منتصف حزيران – يونيو 2007 الذي انتهى بسيطرتها الكاملة على غزّة، بل خاضت حروبا عدّة مع إسرائيل متجاهلة موازين القوى معها. هناك عائلات بكاملها ابيدت وهناك بيوت مهدمة لا يزال أهلها يعيشون في العراء منذ سنوات طويلة بفضل بطولات "حماس" ومقاتليها الاشاوس.

لم يعد امام "حماس" سوى الاعتذار والانسحاب من الساحة السياسية. كلّ ما عدا ذلك يخدم إسرائيل التي ارادت من الانسحاب الكامل من غزّة في 2005 اظهار ان الفلسطينيين لا يستأهلون دولة وان لا شريك فلسطينيا يمكن التفاوض معه. نعم، حققت "حماس" لإسرائيل اكثر مما كانت تطمح اليه بكثير.

باعت "حماس" الفلسطينيين كلّ أنواع الاوهام. كثيرون اشتروا من بضاعتها وصوتوا لمصلحة مرشّحيها في انتخابات العام 2006. آن أوان ادراك ان هناك مشروعا انتهى وان ايّ كلام عن هدنة لعشر سنوات او مئة سنة لم يعد بضاعة قابلة للتسويق. وحده الخيار المصري يمكن ان يؤدي الى رفع الحصار والى انقاذ ما يمكن إنقاذه من سفينة تغرق اسمها قطاع غزّة حيث مليون و800 الف بني آدم يعيشون في 360 كيلومترا مربّعا!