الدولة والمليشيات.. لا مجال للحديث عن حصر السلاح بيد الدَّولة

اليوم في العراق ليس امام القوى الاسلامية المحلية وحليفتها إيران سوى طريقين: إما حسم الصراع السياسي لصالح التحالف الشيعي وتأسيس دولة اسلامية بكل معنى من معاني هذه المقولة أو تشكيل قوى موازية للدولة القائمة أي بناء دولة داخل دولة كما هو حال الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان.

بقلم: سمير عادل

عندما يتحجج رئيس الوزراء حيدر العبادي بكلمة له في المدرسة العسكرية في المنطقة الخضراء، بأن سبب انفلات عيار المليشيات وتطاولاتهاهو انشغال الدولة بالحرب على داعش، فيعني ذلك ان حال حكومته الفاشلة لا يحسد عليه. ولا نقول هنا دولة فاشلة، لان الدولة وبالمعنى الضيق والحقوقي تعني حماية سلامة وامن المواطن هي غائبة كليا ولم تتأسس لحد هذه اللحظة منذ تدميرها على يد الاحتلال. لنعود الى الحكومة التي فشلت في كل شيء واخرها عندما وقفت عاجزة امام ميليشيات تابعة لحزب الله قبل ايام قليلة، عندما اردت شرطيا قتيلا بوابل من الرصاص وجرحت عددا اخرا من افراد الشرطة الى جانب عدد من المدنيين في احدى نقاط التفتيش في شارع فلسطين وسط مدينة بغداد. وكعادة العبادي اكتفى بتصريحات غير نارية ردا على نيران المليشيات التي اغلقت عدد من شوارع بغداد لساعات.

جاءت هذه الاشتباكات بعد أكثر من عشرة ايام على انفجار مخزن للأسلحة والاعتدة في حسينية في مدينة الثورة، حيث ادت الى تدمير عشرات البيوت وقتل وجرح ما يقارب 90 شخصا من المدنيين، ليضاف الى تلك الحادثة المروعة جريمة اخرى من اعمال المليشيات وهي احراق صناديق الاقتراع في منطقة الرصافة، ناهيك عن تصاعد عمليات الخطف والسلب والقتل.

بيد ان المشهد الهوليودي من أفلام المغامرات لا ينتهي هنا، بل يصرح الناطق باسم عصائب اهل الحق بأن جواب المليشيات على قرار المحكمة الاتحادية حول نتائج الانتخابات سيأتيكم بعد ساعات. اي اصبح استخدام مصطلح "المليشيات" رسميا ويتعامل به في الخطاب الاعلامي الرسمي، حاله حال "المكونات" و"الحراك" و"العابرة للطائفية" و"الكتلة التاريخية" و"الشلع القلع" و"الحكومة الوطنية الابوية"..الخ من المصطلحات والمقولات، التي ليست هي نتاج للتطور العلمي والتكنلوجي للمجتمعات كي تحتاجها وتدخلها الى اللغة المتداولة، بل هو نتاج الخراب والفوضى والدمار بما فيه الخراب الثقافي الذي اقحم تلك المصطلحات على اللغة المتداولة اليوم في العراق.

من يصدق ان العبادي او مقتدى الصدر قادران على نزع سلاح المليشيات وحلها فهو غارق في بحر الحماقة اكثر من الاوهام. فعندما يكون هناك تشرذم سياسي في صفوف شبكات الاسلام السياسي الشيعي المتصارعة على السلطة ويفشل بتأسيس الدولة، فلن يكون هناك طوق نجاة لهذه الشبكات سوى المليشيات وسلاحها.

ان عبارة "حصر السلاح بيد الدولة" تعني بالنسبة للأطراف خارج السلطة الحكومية حرمانها امام اطراف الحكومة من سلاحها وقوتها، وتعني تغيير توازن القوى لصالح شبكة من تلك الشبكات. ففي عراق اليوم، وفي خضم الصراع على السلطة والمدعوم اقليميا ودوليا، فلا مجال للحديث عن حصر السلاح بيد الدولة الا للاستهلاك الاعلامي وذر الرماد في العيون. فوجود المليشيات وقوتها وعبثها بأمن المجتمع وكل صولاتها وجولاتها تستند على الفوضى السياسية بالدرجة الاولى والصراع على السلطة السياسية.

التجربة اليمنية واللبنانية تعلمنا، ان قوة اقليمية مثل الجمهورية الاسلامية في ايران لن تستطع ازاحة منافسيها الاخرين من القوى الاقليمية الاخرى، بأحلال قوة قمعية موالية لها محل آلة الدول القديمة التي حصدت الاعتبار المعنوي والسياسي عبر تاريخها الحديث. فلا مجال هنا سوى استغلال حالة الفوضى والصراع على السلطة لتشكيل قوى ميليشياتية مسلحة اخرى كي تؤمن مصالحها القومية. اليوم في العراق، وكما اشرنا الى ذلك في اكثر من مناسبة ليس امام القوى الاسلامية المحلية وحليفتها الجمهورية الاسلامية في ايران سوى طريقين، اما حسم الصراع السياسي لصالح التحالف الشيعي وتأسيس دولة اسلامية بكل معنى من معاني هذه المقولة، او تشكيل قوى موازية للدولة القائمة اي بناء دولة داخل دولة كما هو حال الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان.

ان التحالف الجديد بين العبادي والصدر بعد تحالف الاخير مع مليشيات الحشد الشعبي، يكشف في ثناياه ان الاسلام السياسي الشيعي يعيد تنظيم نفسه من اجل اعادة انتاجه للسلطة الطائفية والدخول في مرحلة جديدة من ادارة الازمة السياسية. فليس سيناريو تزوير الانتخابات بهذا الشكل الفاضح وبعد ذلك حرق صناديق الاقتراع ثم تصريح مقتدى الصدر بأنه يجب النزول عند رغبة الفائزين في الانتخابات، الا وصف لملامح المرحلة القادمة.

ان مشكلة العبادي والصدر مع المليشيات الاسلامية الاخرى ليس مرتبط بأمن الجماهير، بل اساسه الصراع على السلطة وتنفيذ اجندات سياسية مرتبطة بمصالح القوى الاقليمية. فالولايات المتحدة الامريكية والسعودية وتركيا يعملون عن طريق العبادي - الصدر من اجل لجم قوى المليشيات التابعة للجمهورية الاسلامية الايرانية، في حين تعمل الاخيرة عن طريق تلك المليشيات في تحجيم دور ونفوذ امريكا وحلفائها في العراق وفي المنطقة.

هكذا انتهى عمر حكومة العبادي، فلا استطاع ان ينهي مرحلة تأسيس الدولة التي انهارت بشكل كلي على يد عصابات داعش في 10 حزيران 2014، ولا استطاع انهاء عمر عصابات داعش والى الابد، بل راح يلوح في كل مرة بخطر عودة داعش، ولا استطاع ان يقضي على الفساد الذي اعمى عيوننا به، ولا استطاع ان يوفر الحد الادنى من الخدمات. وعلى مراى عينيه ومسامعه نمت وترعرعت الى جانب مليشيات القوى الاسلامية، مليشيات وعصابات العشائر ايضا.

وعليه ليس بامكان الجماهير الفرار المليوني من العراق لان كل ابواب العالم اوصدت امام الهجرة والمهاجرين بسبب تغيير قوانين الهجرة وصراعات الانظمة الرأسمالية في الغرب، فاما انتظار الموت البطيء على يد الاسلام السياسي بحكومته وميليشياته او الدفاع عن النفس وهو حق مكفول ومشروع، حينها ليس للعبادي ولا الصدر الحق في ان يتحدثا عن حصر السلاح بيد الدولة.