الرياض المعاصرة تبدأ من الدرعية ثانية

"نحن نتغير". جملة لا يقولها لك الإنسان السعودي بشكل مباشر. "بينالي الدرعية" شاهد جديد.

"الدرعية" هي الجزء القديم من العاصمة السعودية الرياض. من هناك يمكن للمرء أن يفتح عينيه على حقيقة التحولات التي عاشتها مدينة عربية أساسية لا تزال تنبض بحياة، هي أكثر سعة من الأمل وأشد قوة على مقاومة اليأس في عالمنا العربي المحاصر بذعره خوفا من المستقبل. فالدرعية التي ذهبت إليها من أجل حضور فعاليات افتتاح لقائها التشكيلي العلمي بنسخته الثانية ليست الماضي. لم تعد رهينة ماضيها الذي يشعر أمامه المرء بالاعتزاز، بل أنها إبنة المستقبل الذي تجسده الرياض كما هي في أحلام الفنانين وليست الرياض كما يعيش يومياتها الناس العاديون السعداء بتحولاتها اليومية المفاجئة.

من هنا بدأت المملكة. ذلك صحيح. والصحيح أيضا أن الدرعية تلقي الآن خطوات واثقة في اتجاه المنطقة المضيئة في طريقة تفكير الإنسان العربي في انتمائه إلى العالم، وهي طريقة فيها من الثقة بالنفس بقدر ما فيها من تأمل المشهد الثقافي العالمي والانهماك في تفكيك عناصره ومن ثم محاولة الدخول إليه من البوابات الواسعة. وهي البوابات التي تتيح للعقل العربي المساهمة في صنع التحولات الكبيرة.

وأنا أتجول بين الأعمال الفنية التي ضمها "بينالي الدرعية" قلت لنفسي "تتجاوز المهمة مسألة استضافة فنانين معاصرين من مختلف أنحاء العالم وعرض أعمالهم على جمهور تتعدد لغاته في مساحة ضيقة هي مساحة العرض. الأمر أكبر من ذلك. فالمسألة يمكن أن تذهب في اتجاه التفكير في قدرتنا على أن نكون موجودين في الفكر العالمي، ومحاولة طرح أفكارنا التي تعبر عن شخصيتنا الحضارية المتجددة. في ذلك ما يوسع مديات الفعل الثقافي".

ولا تشكل تلك المغامرة إلا رهانا على إمكانية المقاومة في اتجاهين. الاتجاه الأول يتمثل في قدرتنا على فهم ما يمكن أن نفعله اعتمادا على قدراتنا الذاتية والاتجاه الثاني يتشكل من من وعينا المعرفي الذي تشكله خبراتنا ونحن نسعى إلى الالمام بأسباب نجاح الآخرين من حولنا. هي تجربة تنطوي على الكثير من التفاصيل التي يدخل الكثير منها في عالم السياسية. ولأن الفن قد تخلى منذ وقت طويل عن جانبه الجمالي الخالص فقد صار علينا أن نستجيب لمحتواه الجديد الذي هو نوع من المزيج الاجتماعي والسياسي. في الدرعية رأيت عالما لا يقع بعيدا عن هموم عصرنا بأفقه الإنساني الذي الذي يتميز بالإنسجام الذي تسعى الثقافة إلى الحفاظ عليه في مواجهة الحروب الصاخبة والصامة على حد سواء. وهوما يجعلنا نقف في قلب الحدث العالمي.

ولأن المملكة تشهد تحولات عميقة، صارت مرئية حتى بالنسبة للعين العابرة فإن عودة الدرعية إلى الصدارة من خلال الثقافة يمكن أن تعتبر فعلا سياسية، يفتح أبواب التأمل في كل ما يحتويه العقل العربي الجديد من مفردات، يتآلف من خلالها ما هو أصيل وعميق الجذور بما هو وافد من الخارج بثقل معانيه لخلاقة. الفن ملعب للتحديات من خلال استعراض لا ينفي قوة الرغبة في التحول. فبقدر ما نتعرف على ما يقدمه الآخرون بقدر ما نجرب قدرتنا على التعامل مع تلك المعرفة بعقول مفتوحة، تهدف إلى التحرر من كل قيود المجتمع الساكن.

"نحن نتغير". جملة لا يقولها لك الإنسان السعودي بشكل مباشر. لكن كل ما تراه في الحياة العادية وفي طرق الاداء الثقافي يخبرك بأن هناك عملية استنهاض شاملة لرغبة إنسانية عميقة لا في الخروج من الذات المغلقة على مفرداتها حسب بل وأيضا في الارتباط بالعالم من خلال المشاركة في عملية بنائه وتجديد ملامحه وتعميق رؤاه الإنسانية. والمملكة تجدد من خلال ذلك شبابها وتستعيد فتوتها وقوة تأثيرها. والدرعية هي النقطة التي تتجمع فيها كل الأضواء.

"من هنا بدأنا ومن هنا نبدأ من جديد". تلك جملة تُحس ولا تُسمع. فالتواضع السعودي يغلب. هو السمة التي كلما اصطدم المرء بها لابد أن يردد مطلع قصيدة المتنبي الذي يقول فيه "على قد أهل العزم تأتي العزائم/ وتاتي على قدر الكرام المكارم/ وتعظم في عين الصغير صغارها/ وتصغر في عين العظيم العظائم". رأيت أشياء كبيرة يقابلها تعبير إنساني عن عاطفة إنسانية خلاقة تضع الأمور في نصابها الصحيح. فالبلاد التي تتغير هي حاضنة لإنسان، يرغب في أن يقدم شكره للآخرين لأنهم أغنوه ولا يرى في أفعاله إلا نوعا من الواجب الذي تمليه عليه طبيعة موقعه على خارطة التحولات. من الدرعية يمكن النظر إلى ثقافة المستقبل.