الزبير مهداد يقدم 'محطات في تاريخ الفكر والتربية في الغرب الإسلامي'

الكاتب المغربي يرصد في كتابه التحولات الفكرية والتربوية التي عرفها الفكر المغاربي.
سعيد منصوري
الرباط

صدر حديثا للكاتب المغربي الباحث في التربية وتاريخ الفكر الدكتور الزبير مهداد، مؤلف جديد بعنوان "محطات في تاريخ الفكر والتربية في الغرب الإسلامي" عن منشورات دار نشر المعرفة بالرباط، في طبعة أولى أنيقة من 300 صفحة.

يعد الكتاب إضافة ثمينة لرصيد المؤلف من الأبحاث والإصدارات القيمة التي تؤرخ للفكر التربوي في البلاد المغاربية (المغرب الكبير والأندلس)، التي لفتت أنظار الدارسين والمهتمين إلى أعلام كبار، كشف عن أهمية وقيمة ما كتبوه أو اكتشفوه، أو عبروا عنه في مصنفاتهم.

مثل كثير من مؤلفاته، يحلل هذا الكتاب، ويستعرض أفكار عدد من المثقفين والعلماء المؤثرين في الحياة الدينية والفكرية لمجتمعاتهم، لرصد التحولات الفكرية والتربوية التي عرفها الفكر المغاربي، ما يجعل هذا العمل حلقة من مشروع كبير للمؤلف، أصدر في إطاره عددا من المصنفات المهمة التي نشرت في المغرب وخارجه.

يؤكد المؤلف أن فهم نمط تفكير الشعوب، بمثقفيها ونخبها، وعامتها، يقتضي فهم ومعرفة نظام التربية السائد في مؤسسات التعليم، لأنها هي التي يتدرب النشء في أحضانها على طرق التفكير وآلياته، كما يكشف النظام التربوي عن حدود تدخل السلطة السياسية في العمل التعليمي، وتوظيفه في تحقيق أهدافها وصناعة مثقف على مقاسها، فكتب الفكر التربوي ومناهج التعليم تعكس طبيعة الفكر السائد، واتجاهات التفكير، وتتحمل المسؤولية الكاملة في صياغة أفكار الناس واتجاهاتهم العقلية، لأنها هي التي تحدد مسار التكوين العقلي للأفراد، محافظين كانوا أو متحررين.

يقدم هذا الكتاب قراءة واستعراضا للفكر الذي تم إنتاجه طيلة قرون عديدة، في الغرب الإسلامي، الذي اشترك في صياغته الفقهاء والفلاسفة والأدباء وعلماء الاجتماع والرحالة الذين ترجموا من خلاله الاختيارات التي تواضع المجتمع على وضعها وقبولها، من حرية أو تشدد أو اجتهاد، خاضعين في ذلك ومتأثرين بخلفياتهم المذهبية وقناعاتهم الفكرية وظروفهم السياسية والاجتماعية. ومن خلالها رسموا ملامح المشروع المجتمعي وحددوا أدوار ووظائف المؤسسات التربوية، وطرق اشتغالها، ومناهج بناء القدرات العقلية ومهارات التفكير لدى الأفراد.

لهذا الغرض ابتنى المؤلف كتابه من خلال عدة فصول جاءت على النحو التالي:

مدخل: قدم المؤلف لمحة عن المصادر، فاستعرض الأصول التي يستمد منها الفكر والتربية الآراء والمناهج والأحكام. يؤكد المؤلف أن هاجس المشروع المجتمعي كان يشغل بال كل المثقفين والمفكرين، الذين انخرطوا في وضع أسسه من خلال كتاباتهم، التي تختلف باختلاف توجهاتهم ومشاربهم الفكرية. وأجابوا عن التساؤلات وقدموا التوجيهات والمواعظ، ولم يدخروا جهدا ولا معرفة ولا رأيا في سبيل الإسهام في تربية النشء وبناء المجتمع. فكتابات الفقهاء، تختلف في العمق والمقاربة مع أعمال الأصوليين، التي هي أقرب إلى الفلسفة، فالفقهاء انشغلوا بوضع قواعد السلوك الفردي، وتعريف الناس بأحكام الشرع الضابطة للحياة الخاصة والعلاقات بين الأفراد، وآداب المهن؛ أما الأصوليون فقد نَظَّروا لِلْعَقل، وبحثوا في مفهوم العلم وحدوده، والتعليم، وغاياته، في حين كانت كتب الأدب مفعمة بالقيم والأخلاق النبيلة التي تقدم دوما فكرا وعظات ودروسا لطيفة للناشئة والقراء، داعية إلى مكارم الأخلاق، لأجل صياغة الشخصية الإنسانية الإيجابية المتزنة؛ أما الأطباء فقد أسهموا أيضا في التنظير للمشروع المجتمعي، ووجهات نظرهم تختلف عن وجهات نظر غيرهم. فالفكر الذي عبر عنه الأطباء نقلوه من كتب الطب اليوناني، كان تطبيقا لمعارفهم الطبية والنفسية التي توصلوا إليها، وهي يغلب عليها الطابع التجريبي، وهذه إحدى مزاياهم.

وكذلك الفلاسفة الذين عرفوا بالحكمة والفلسفة الهندية واليونانية وغيرها، أسهموا بعطاء هام، إسلامي الأسس، فلسفي التوجه، إنساني الآفاق، فقد أسهمت الفلسفة العربية الإسلامية في تفسير وتوضيح المفاهيم الدينية التي وردت في القرآن الكريم، وقدمت أسسا ومبادئ تهدي الإنسان والمجتمع وتصلح حياتهما؛ كما كان للتصوف حضور بارز، فقد اتسع تأثيره حتى أصبح يشمل كل فئات المجتمع وخاصة منهم العلماء، فكان له أثره في ثقافتهم وسلوكهم، وآرائهم في تحديد مفاهيم العلم والعقل والقلب والتربية وآداب التعليم، وكثير من الموضوعات التي تدخل في مجال التربية والتعليم.

في الفصول الأخرى للكتاب، استعرض المؤلف أفكار عدد من هؤلاء المفكرين على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم، وحلل آراءهم، وأبرز ما تحمله من رؤى مجددة، أو ترسيخ للتقليد الثقافي. ومن خلالها رسموا ملامح المشروع المجتمعي وحددوا أدوار ووظائف المؤسسات التربوية، وطرق اشتغالها، ومناهج بناء القدرات العقلية ومهارات التفكير لدى الأفراد. وراعى المؤلف الترتيب التاريخي ابتداء من القرن الثالث الهجري، إلى غاية القرن الثالث عشر. فعرف بأفكار ابن سحنون، وابن الجزار القيرواني، وابن أبي زيد القيرواني، والشوشاوي، والمغراوي، وابن عرضون، وابن الحاج، وابن ميمون الغماري، واليوسي، والعياشي، والسلطان سيدي محمد بن عبدالله، والطرنباطي من المغرب، أما من الأندلس، فقد درس آراء ابن حزم الأندلسي، والإمام الباجي، وابن عربي المعافري، والبلوي، وابن رشد، وابن عبدون، وابن الخطيب، وابن الأزرق، وابن خلدون، والشاطبي.

ومن النتائج التي توصل إليها الكاتب أنه في الوقت الذي تميز فيه المنتج الأندلسي بأصالته واجتهاده، فإن مثقفي المغرب الكبير طغى عليهم التقليد. فمثقفو الأندلس كانوا مبدعين في كل المجالات الأدبية والفقهية والفلسفية والصوفية وغيرها، وكانوا أكثر جرأة في كتاباتهم، وتجديدهم الثقافي الفكري، وأكثر استمتاعا بالحرية، وأكثر تقبلا للاختلاف. أبانوا عن إدراك عميق لقيمة العلوم وغايات التعليم والتربية، ووعي ذكي بمشاكل وقضايا المجتمع، ورغبة أكيدة في إصلاحه وتطويره، حتى يحقق الغايات النبيلة المرجوة منه. ولعل الفضل في نضج الفكر الأندلسي يحوزه المثقفون الذين هاجروا إلى هذه البلاد من مختلف ربوع العالم الإسلامي، شرقه وغربه، وكذا إلى تنوع وتعدد الاثنيات والأديان التي تعايشت في الأندلس، وأسهمت بثقافاتها في بلورة فكر إسلامي جديد بهذه البلاد، مستمتعة بجو الحرية الذي كان سائدا فيها، وانفتاحها على الثقافات والحضارات الأوروبية التي ورثتها أو جاورتها كالثقافة اليونانية والهيلينية، ما شجع أعمال الترجمة إلى العربية فانفتحت آفاق واسعة للأندلسيين وسائر العرب والمسلمين للاطلاع على هذه الثقافات واستيعابها، فتفوقوا بإنتاجهم على إنتاج سائر البلاد الإسلامية في الآداب والفنون والفكر والعلوم. حتى أن الفلسفة في الغرب الإسلامي كانت أندلسية بامتياز، ففي القرن السادس الهجري انتعشت الفلسفة، وظهرت المصنفات الفكرية المثيرة والرائعة، لكن سريعا ما انتهت الانتعاشة، وطوردت الفلسفة، في القرون الموالية في ظل حكم أنظمة محافظة.

وعلى الرغم من النكسة الثقافية في البلاد المغاربية، فإن الحياة الثقافية في الأندلس ظلت نشيطة، ولو في ظل خفوت أصوات الفلسفة، في حين انتشر ظلام التقليد والركود في غيرها من البلدان، لأن الذهنية التقليدية تستعمل مبادئ وقيما وتقاليد بالية للتحكم في الحاضر، وتقيس قضايا الحياة الآنية بمقاييس ومعايير القرنين الأولين، وتقف بالتالي لمنع أي تجديد أو تطور في هياكل الحياة وأنظمتها ومظاهرها.

هذه الذهنية بُذورُها قائمة في العقل الجمعي للأمة منذ خمسة عشر قرنا، تُزْهِرُ وتَيْنَعُ وتَرْبو في أوقات النكسات والأزمات السياسية والاقتصادية، حيث تتراجع الثقافة وتموت العلوم، ويتوقف العقل عن التفكير المبدع، قد تتواصل الدروس في الحلقات المسجدية والمؤسسات التعليمية، وقد يؤلف المثقفون كتبا، لكن الدروس والكتب لا تخرج عن دائرة التقليد الفقهي المحافظ، تتصدى لمظاهر انفتاح المجتمع، وتغلق عليه النوافذ، وتكبل فكره، ما أبقى البلاد بعيدة عن كل تطور، أو كل تأثير للفكر والعلم على الحياة الاقتصادية أو التقنية أو الاجتماعية. وما ضمن شروط النجاح والانتشار للتيار التقليدي المحافظ هو أن البنية الثقافية التي ما زالت مهيمنة إلى اليوم تقليدية منغلقة على ذاتها متحجرة، لا يمكن أن تستجيب لدعوات الانفتاح الأخرى، حتى وإن أبدت مؤشرات انفتاح جزئي، فإن الطابع المحافظ لرجل الدين التقليدي يقف بالمرصاد في مواجهة أي تثوير ثقافي أو انفتاح فكري.