السعودية وتصحيح معادلة التوازن العربي
من يتمعن في توجهات سياسة المملكة العربية السعودية الجديدة في المنطقة، يجد أن هناك الكثير، مما يمكن أن يدخل في دائرة رسم ملامح استراتيجية عربية شاملة، تعتمد خارطة طريق أكثر واقعية مع تطلعات الدول العربية ومنها العراق، مؤداها إعادة معادلة التوازن العربي، التي تعرضت لاختلالات كبيرة، الى سابق عهدها، منذ أن خرج العراق من تلك المعادلة، قبل أكثر من خمسة عشر عاما. وما إن إنهار العراق، حتى تعرضت المنظومة العربية برمتها، الى مخاطر هددت وجودها وكيانات أنظمتها في الصميم.
لقد وجدت السعودية أنه ليس من المصلحة العربية، أن تجد العراق مقسم الولاءات مشتت القوى والاتجاهات، تتنازعه مختلف أطراف الصراع الإقليمية والدولية، كما إن بقاء هذا البلد تحت الهيمنة الإيرانية أمر لم يعد بالإمكان تقبله، بأي حال من الأحوال، والعراقيون شعبا وحضارة وقيما ومقدسات، هم المتضرر الأكبر من تلك الهيمنة غير المبررة.
ويدرك المسؤولون السعوديون ومنهم القيادة الشابة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أن السعودية بإمكاناتها ودورها الحيوي والاستراتيجي في المنطقة، يمكن أن يكون لها دور ريادي إيجابي في قيادة المرحلة المقبلة، وبدء مرحلة إنعاش الأمل العربي في ولادة جديدة، بعد مرحلة ما سمي بالربيع العربي، إنقلبت وبالا على العرب، واذا بـ "خريف الغضب" الذي هب عليها، وهو يحول دولا عربية مثل العراق وسوريا واليمن ودول عربية اخرى الى عواصف هوجاء وسط بحر متلاطم الأمواج، كلف الأمتين العربية والإسلامية مئات الآلاف من الشهداء والجرحى وملايين من المهجرين والنازحين داخل بلدانهم في ودل العالم، وشهدنا انهيار بنية تلك الدول وأنظمتها وتراجع خطير لدورها على الساحة العربية. ما نطلب من المملكة أن تتخذ زمام المبادرة لكي تعيد التضامن العربي الى سابق عهده، بعد إن تعرض الى انهيارات خطيرة وهزات عنيفة أودت بمستقبل دوله وأنظمته، وتركت بلدانها تعصف بها الرياح من كل حدب وصوب.
ربما يدرك السعوديون قيادة وشعبا، الآن أكثر من أي وقت مضى، أن الابتعاد عن العراق وتركه لقمة سائغة لإيران تتلاعب بمقدرته على هواها، من أجل إبتلاعه وضمه لامبراطوريتها، ستكون له آثار كارثية ليست على السعودية فحسب، بل على المستقبل العربي والمحيط الأقليمي، ولهذا وجدت ان إعادة الاعتبار للعراق ولدوره الحضاري وتقديم ما يمكن من الدعم والاسناد لشعبه، يمكن ان يخفف من تلك الأعباء، بأن تمد المملكة يدها لتقدم لإخوتها ما يمكن أن ينتشلهم مما هم فيه من إنهيار لبنية بلدهم، وتشتت ولاءاتهم وتوزعها بين الدول الاقليمية، في وقت لم يجد العراقيون ولم يلمسوا، أن للسعودية أطماع إحتلال او هيمنة على مقدرات العراق تحت أي عنوان أو مبرر، لا تحت عنوان المذهب، ولا تحت أي عنوان سياسي أو ديني، بقدر ما تريد المملكة أن يكون دورها حيويا وإيجابيا وفاعلا، يسند جميع الدول العربية التي تتعرض لتهديدات إقليمية أو دولية، بالرغم من انها تتحمل دفع تكاليف باهظة جراء مواقفها الإيجابية هذه، وهي لا ترى فيها منة أو فضلا على الآخرين، بقدر ما يعكس إهتماما بحفاظها على التوازن العربي والاقليمي لكي لا تبقى تلك المعادلة تعاني حالات إختلال خطيرة، وهي تدرك مخلفات تراجع دور العراق وعواقبه على المنطقة،وتدرك أيضا إن من شأن ترك العراق وحيدا يلعق جراحاته أن تكون لها إمتدادات كارثية على الجميع.
وبرغم كل ما سعت اليه طهران لتقويض الدور السعودي وتدخلات ايران السافرة في الشأن الداخلي لدول المنطقة ومنها السعودية، إلا ان المملكة بقيت تتبع سياسة "الإحتواء عن بعد" وتحرص على عدم الدخول في حروب مواجهة مع أي من دول المنطقة ومنها إيران، ليس خشية من زعماء ايران وعربداتهم الفارغة، ولكن لأنها تدرك أن دخول أي مواجهة مباشرة مع إيران، سوف لن يكون في صالح السعودية ولا في صالح العرب، وهي تدرك التداعيات الخطيرة من هذا النوع، وهي تريد درء الشر ولغة العنجهية والعدوان وابعاد مراميها الخطيرة قدر الامكان، لكي تدرأ عن نفسها وعن شعبها ما يدخلها في مواجهات ليس فيها منتصر أو مهزوم.
وحتى في حرب اليمن، حرصت السعودية على أن لا تدخل طرفا مباشرا، حتى وإن دعمت الشرعية في اليمن، لكن إيران دخلت بكل قوتها وجيوشها ومرتزقتها، وهي التي أدمت جراح اليمنيين وعرضت شعبهم لمخاطر كبيرة، أبرزها مخلفات تلك الحرب الأليمة على شعب اليمن، الذي وجد في التدخل الايراني السافر في شؤونه أن يكون العرب حاضرين معهم ومنهم السعودية الجار الأقرب اليهم، والأكثر تداخلا مع بيئتهم وتوجهاتهم، والاكثر خطرا على مستقبل المملكة التي ترتبط بحدود طويلة مع اليمن، وهي التي حفظت هذا البلد من غزوات في سنوات سابقة، وهي الان تريد عودة الشرعية الى اليمن في أسرع ما يمكن.
ويبقى العراق هو الحلقة الأكثر خطورة بين كل دوله على مستقبل الأمة العربية، وهي تدرك، أي السعودية، إن إستمرار الهيمنة الايرانية على مقدرات العراق، له مخاطر كبيرة على الأمن العربي، وقد يتحول الى ولاية ايرانية على شاكلة ولاية الفقيه في إيران، بالرغم من ان بوادر مثل تلك السياسة واضحة في العراق على أكثر من صعيد، وهو ما يعني أن العرب لن تقوم لهم قائمة بعد الآن.
والمخاوف السعودية مما يجري من تفاعلات خطيرة في العراق وتهديدات فارغة من جهات مرتبطة بإيران تبقي تلك المخاوف مشروعة وحقيقية، وليس بمقدور السعودية أن تخفي مخاطر من هذا النوع، ولن تقف متفرجة، وهي ترى العراق يخرج من فلكه العربي، ويدخل في الفك الإيراني، بإتجاه أن يتحول الى تابع لإيران وهي لاتخفي نواياها من أنها تريد الإستحواذ الكلي على مقدرات العراق واستباحة شعبه، تحت غطاء الإمتداد المذهبي ودعاواها المضللة، بانها هي من تدافع عن شيعة العراق، في وقت تكشف للكثيرين أن شيعة العراق هم أكثر المتضررين من الهيمنة الايرانية على مقدرات بلدهم.
والخطوات المتسارعة التي اتخذتها السعودية تجاه العراق، والوفود المتبادلة التي زارت كلا البلدين وعلى أعلى المستويات، وعقدها اتفاقيات تعاون اقتصادي وتجاري كبيرة، ومنح وبناء مدينة رياضية متكاملة في العراق والاسهام في إعمار مدن العراق المحررة، والإنفتاح على كل القوى السياسية العراقية بعيدة عن التوجهات المذهبية، هي رسائل تطمين إيجابية، انه ليست للسعودية اطماع في العراق، وهي تريد ان ترى العراق وقد إستعاد دوره الحضاري بعيدا عن سياسات التوسع والحروب، وهو ما يدعو للتفاؤل والأمل بأن المملكة حريصة هذه المرة على أن يكون لها حضور إيجابي فاعل ومنفتح على الجميع.
هذه بإختصار ما يمكن إستخلاصه من نوايا السعودية الحقيقية تجاه شقيقها العراق، والتي إختطت توجهاتها ومساراتها قيادة شابة، أرادت تصحيح تلك المعادلة المختلة، وهي ترى ان العراق هو أحد أهم تلك البوابات والدعامات التي ستعيد الى التضامن العربي رونقه وبهاءه، ويكون بمقدور العرب أن يطمئنوا على العراق، وعلى عودة دوره الإيجابي المحوري، القادر على أن يسهم مع بقية أشقائه العرب ومنهم جارته الكبيرة السعودية في بناء منظمة عربية قادرة على مواجهة التحديات، في وقت أبدت جهات سياسية عراقية حرصها على تطوير مجالات التعاون مع المملكة في مختلف المجالات.
ويدرك القادة العرب، وعلى رأسهم قادة السعودية وقادة آخرين في العراق أن المنظومة العربية تواجه الآن تحديات خطيرة، ينبغي أولا عدم الدخول في سياسة المحاور، وأن تتكاتف جميع الدول العربية، وبخاصة دول مثل مصر والمغرب العربي لمساندة الاستراتيجية السعودية الجديدة، في الإنفتاح العربي على العراق، وعودة سوريا كذلك الى محيطها العربي، والمحافظة على سياسة توازن مع القوى الدولية، وبخاصة مع الولايات المتحدة وروسيا ودول الاتحاد الأوربي ودول شرقي آسيا واليابان، بعيدا عن الإملاءات والضغوط في الانخراط في أي محور إقليمي أو دولي، والاعتماد على قدرات تلك الدول وثرواتها للنهوض بشعوبها وأجيالها، وبناء نظم ديمقراطية أكثر إنسجاما مع رغبات شعوبها ودولها،دون تقليد ديمقراطيات الغرب التي راحت هي الأخرى تشهد عهد الثورات، كونها الضمانة الأكيدة لخلاص تلك الدول من أي تهديد لأمنها ولسيادة شعوبها ومصالحهم وطموحاتهم المشروعة في أن يبقوا أمة محترمة، ليس بمقدور كائن من يكون أن يتعرض لها بسوء، إن حرصت دول المنظومة العربية على أن تعيد لدولها الإعتبار هذه المرة.