السودان ضحيّة القضاء على المجتمع المدني

أزمة السودان أبعد من صراع على السلطة بين ضابطين وقوتين عسكريتين.

اخطر ما في السودان حاليا ذلك الغياب للمجتمع المدني. لم يعد هذا المجتمع سوى متفرّج وضحيّة، بل شاهد زور، وسط قتال ذي طابع عبثي لا افق سياسيا له. إنّه قتال بين شخصي الفريق عبدالفتاح البرهان، قائد الجيش، والفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوة الدعم السريع، وهو جيش آخر في السودان معترف به رسميا، كما حال "الحشد الشعبي" في العراق.

ليس "الحشد الشعبي" سوى مجموعات ميليشيات مذهبيّة تابعة لـ"الحرس الثوري" في ايران. على الرغم من ذلك كلّه، بات لما يسمّى "الحشد" وجود شرعي في العراق بما يؤكّد الهيمنة الإيرانية على البلد. في مرحلة معيّنة احتاج الضابط عمر حسن البشير، الذي حكم السودان طوال ثلاثة عقود، إلى "حميدتي". شرّع البشير قوّة الدعم السريع بهدف واضح هو حماية نظامه الذي ما لبث ان انهار في العام 2019.

في ظلّ الحلقة المقفلة التي يدور فيها السودان، هناك نقطتان يجدر التوقف عندهما مع دخول المعارك بين الجيش النظامي وقوة الدعم السريع اسبوعها الثالث. تتمثل النقطة الأولى في التحوّل الذي طرأ على المجتمع السوداني منذ الإستقلال في العام 1956. لا يمكن الكلام في السنة 2023 عن غياب للمجتمع المدني فحسب، بل بات يمكن التساؤل أيضا أين تبخرّت الأحزاب السودانيّة التي كانت تطلّ برأسها بين حين وآخر مؤكّدة أن الحياة السياسيّة لم تمت نهائيا في السودان.

أمّا النقطة الثانية، فهي تتعلّق بمدى قدرة السودان على المحافظة على وحدته الترابيّة، اقلّه على ما بقي منها منذ استقلال الجنوب في العام 2011... وتحولّه إلى دولة مستقلّة. يسعى جنوب السودان إلى لعب دور الوسيط بين الذين يتقاتلون على السلطة في المناطق السودانيّة الأخرى. تكمن المشكلة في المدى الطويل في أنّ السودان في طريق التفتت. لم يكن انفصال الجنوب سوى بداية. لا يمكن عزل استقلال الجنوب عن الفشل السوداني وفشل المجتمع المدني تحديدا. هذا فشل لن تقتصر انعكاساته على السودان وحده. سيكون تشظي السودان مقدّمة لتشظي دول أخرى في المنطقة، بينها اثيوبيا.  

في تشرين الأول – أكتوبر 1964، في السودان بالذات، كانت المرّة الأولى في المنطقة التي يهزم فيها المجتمع المدني العسكر ويخرجهم من السلطة وذلك بعد ست سنوات من حكم عسكري بدأ في العام 1958 بعدما سلّم المدنيون السلطة إلى الفريق إبراهيم عبود في ضوء عجز الأحزاب السياسيّة عن إدارة البلد. اضطرّ الفريق عبود وقتذاك إلى التراجع والإستقالة في مواجهة الحشود البشرية التي واجهت سلطة العسكر. فشل العسكر، ابتداء من خريف العام 1958 في إدارة السودان. في خريف 1964، نزل المواطنون إلى الشارع. لم تمض ايّام قليلة إلّا واستسلم إبراهيم عبود وعاد المدنيون إلى السلطة. عاد ايضا التناحر بين الأحزاب. سهل ذلك الإنقلاب الذي نفذه، في العام 1969، ضابط آخر اسمه جعفر نميري يتمتع بمقدار لا بأس به من الرعونة والأفكار السطحية المستوحاة من تجربة جمال عبدالناصر في مصر. سبق النميري معمّر القذافي في ليبيا. كان انقلاب النميري ورفاقه في 25 أيار – مايو 1969، فيما كان انقلاب معمّر القذافي في أوّل أيلول – سبتمبر من العام نفسه.

أظهرت الأحداث الأخيرة في السودان أنّ ليس في استطاعة أي فريق الإنتصار على الآخر في معركة لم يكن البرهان مستعدا لها. استخف البرهان بـ"حميدتي" الذي اثبت أنّه لا يمكن الإستخفاف به بأي شكل على الرغم من عدم امتلاك قواته لمدرعات ودبابات ولسلاح جوّ. لكنّ الحلقة المفقودة تتمثل في غياب الشعب السوداني والمجتمع المدني.

يقف المجتمع المدني مكتوفا أمام المأساة الدائرة، علما أنّه لعب دورا في اواخر العام 2018 في إزاحة عمر حسن البشير الذي بقي في السلطة ثلاثين عاما، بين 1989 و2019. أدّى إصرار السودانيين إلى الإنتهاء من حكم البشير. لم يحصل ذلك، عمليّا، إلّا بعد تدخل العسكر، بمن في ذلك البرهان و"حميدتي". أراد العسكر توجيه رسالة فحواها أنّه يستحيل ابعادهم عن السلطة.

ليس المجتمع السوداني وحده الذي تراجع. تكفي نظرة سريعة إلى ما تشهده دول عدّة في المنطقة للتأكّد من أن العسكريين لا يصلحون لحكم الدول. يمكن ان تكون للحاكم ثقافة عسكرية وتجربة في هذا المجال. لكنّ الثقافة السياسيّة تبقى هي الأهمّ، كذلك القدرة على فهم التغيّرات الإقليمية والدولية. الثقافة العسكرية تخدم الثقافة السياسيّة في أحيان كثيرة، هذا ما تكشفه تجربة الملك عبدالله الثاني في الأردن وتجارب أخرى، خصوصا في منطقة الخليج العربي، على سبيل المثال وليس الحصر.

يعني انكفاء المجتمع المدني السوداني وغياب أي دور له في تقرير مصير هذا البلد المهمّ أن السودان مقبل على تطورات في غاية الخطورة. ستكون لهذه التطورات انعكاساتها على صعيد البلد نفسه وعلى صعيد المنطقة. يعود ذلك، قبل أي شيء آخر إلى موقع السودان الذي يمرّ فيه نهر النيل في طريقه إلى مصر. السودان امتداد مباشر لمصر. كذلك، يعتبر السودان دولة مهمّة على البحر الأحمر، دولة لديها حدود مع دول افريقية عدة بينها جمهورية جنوب السودان وليبيا وتشاد واثيوبيا واريتريا وافريقيا الوسطى.

ما الذي سيحدث إذا انتصر البرهان وماذا إذا انتصر "حميدتي" وماذا إذا عاد عمر حسن البشير وضباطه إلى السلطة في ظلّ انباء عن أمور غريبة تحصل في مكان احتجاز هؤلاء الضباط؟ الجواب، بكلّ بساطة، أنّ السودان يبدو امام مستقبل مجهول في غياب مجتمع مدني وأحزاب عاجزة عن تحمّل مسؤولياتها... وجوع ليس بعده جوع إلى السلطة لدى العسكر.

تبدو أزمة السودان أبعد من صراع على السلطة بين ضابطين وقوتين عسكريتين. يبدو أيضا أنّ السنوات الثلاثين التي أمضاها عمر حسن البشير في السلطة أدت إلى توجيه ضربة قاضية للمجتمع المدني والأحزاب التقليدية... ضربة ليس معروفا هل تستفيق منها يوما؟