السيادة الوطنيّة مَهمّة اكبر من ان يتحملّها قادة العراق والاقليم

هل ننتظر شعوبا اخرى تثور لتحرّرنا من براثن المحاصصة التي تقود بلادنا الى مستنقع الموت والدمار.

في العام 1946 وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وقعت سلسلة من الاحداث في المياه الاقليمية الالبانية وتحديدا في مضيق كورفو، حيث وقعت وقتها مواجهة بين الاسطول البريطاني والقوّات المسلّحة الالبانية المتحصّنة على السواحل، وقامت سفن الاسطول البريطاني وقتها بإزالة الالغام البحرية من المياه الاقليمية الالبانية ما دفع البانيا الى تقديم شكوى الى الامم المتحدة حول تجاوزات بريطانيا على سيادتها في مياهها الاقليمية. بعد استلام الشكوى الالبانية حُوّلت القضيّة الى محكمة العدل الدولية في لاهاي للبتّ فيها، وبغضّ النظر عن قرارات المحكمة لفضّ النزاع بين الدولتين، فانّ المحكمة اصدرت في معرض دراستها للشكوى تعريفا للسيادة في قضية المضيق، والتي تعتبر بالحقيقة تعريفا لمفهوم السيادة الوطنية والعلاقات بين الدول المختلفة، وقد جاء التعريف في انّ "السيادة بحكم الضرورة هي ولاية الدولة في حدود اقليمها ولايةً انفرادية ومطلقة، وانّ احترام السيادة الاقليميّة بين الدول المستقلّة يُعَدْ اساسا جوهريّا من اسس العلاقات الدوليّة".

انّ سيادة اي دولة لا تقتصر على سيادتها الخارجيّة، اي لا تقتصر على استقلالها في القرارات السياسيّة وعلاقاتها مع الدول الاخرى ومنها الدول الحدودية فقط، بل لدى الدول سيادة اخرى تتعلّق بسيادتها على سياساتها الداخلية تجاه شعبها دون تمييز بين مواطني البلد، وعلى ان تكون للدولة اليد الطولى في بسط سلطتها على كامل ترابها الوطني اي عدم وجود سلطة منافسة لها، لانّ هذا الامر، اي وجود سلطة منافسة لها، يؤدي الى ضعف الدولة وتشتت القرار السياسي ممّا يؤثر على سيادة البلد واستقلاله.

بعد القصف الايراني المستمر ومعه القصف التركي لبلدات وقرى ومدن في اقليم كردستان العراق ومنه القصف الايراني الاخير، وقضم الاراضي العراقية ومياهنا الاقليمية من قبل الكويت وبتواطؤ ساسة "عراقيين"، فإننا بحاجة الى سلطة وطنية قويّة تعمل من اجل صيانة حدود بلدها وسلامة شعبها، وليس الى سلطة ضعيفة على المستويات الدوليّة والاقليمية والداخلية كما سلطة العراق اليوم.

انّ فساد سلطات بغداد واربيل واستبدادهما السياسي بهيمنتيهما على مقاليد البلاد والاقليم نتيجة نظام المحاصصة، هو عامل انحطاط للدولة العراقيّة التي تترنح اليوم نتيجة سيطرة نخب فاسدة على مقاليد الامور بالبلد بين المرض العضال والموت السريري. فهذه السلطة التي فشلت في بناء الانسان العراقي وتأهيله لحياة طبيعية بعد عقود من الحروب والازمات والحصار، رسّخت الفساد واللاابالية تجاه قضايا الوطن عموديا فيما بينها وافقيا للأسف الشديد مجتمعيا، حتّى بات الانسان العراقي هو الوجه الاخر للسلطة في تعامله مع القضايا الاقليمية التي ينظر اليها من زاوية الطائفة والمذهب مدافعا عن طرف اقليمي وان استباح اراضيه!

العراق اليوم بحاجة الى حكومة لها كرامة، لا تكتفي بالاستنكار والادانة واحضار سفيري ايران وتركيا الى مقر وزارة الخارجيّة وتسليمهما بيانات شديدة اللهجة، والنتيجة هي استمرار القصف الايراني والتركي وتدخلها بالشأن الداخلي العراقي وكان العراق ولاية تابعة لدولتيهما. انّ من مَهام الحكومة اليوم هو جمع ادلّة ووثائق وشواهد وما اكثرها حول الهجمات الايرانية والتركية وصياغتها قانونيا وتقديمها كملف متكامل لمجلس الامن الدولي ومحكمة العدل الدولية، لتكون الحكم والقاضي وفقا لقرارات الامم المتحدة وتفسيراتها حول سيادة العراق على اراضيه وسمائه ومياهه الاقليمية. كما وعليها اي الحكومة ان تطالب بنفس الوقت ووفقا للقانون الدولي بهيئة تحكيم دولية لتحديد وضع العراق باعتباره دولة مصب وحقّه في مياه الانهر التي قطعت ايران جريانها وحولّتها الى الداخل الايراني، وحقّها العادل في مياه نهري دجلة والفرات اللذين ينبعان من الاراضي التركية.

انّ استمرار علاقات الحكومة المركزيّة وحكومة الاقليم بإيران وتركيا سياسيا وتجاريا وثقافيا كما هي عليه اليوم وارتهانهما لهما على الرغم من قصفهما المستمر للأراضي العراقية، تعني استمرار تآكل السيادة الوطنية ورهن مصير البلاد عند طهران وانقرة. لكنّ الواضح ومن خلال تجربة العراق ما بعد الاحتلال ان قوى المحاصصة لا تستطيع الخروج عن املاءات العاصمتين وبالتالي فانّ مصير البلاد معلّق بتغيير جذري للسلطة. وهذا التغيير وفي ظلّ استمرار نهج المحاصصة وسيطرة الميليشيات على القرار السياسي بعد ان اصبحت مُمّثلة بالبرلمان وارتباطها بحبل سرّي برحم ولي الفقيه لا يأتي مطلقا عبر صناديق الاقتراع حتى بعد مرور عشر دورات برلمانية قادمة او اكثر، فهذه القوى تُعزّز مصادر قوّتها سنة بعد اخرى ان لم تكن ساعة بعد ساعة وتهيمن على مفاصل البلد وتنهب ثرواته. انّ هيمنتها على الثروة في ظل اقتصاد ريعي يعتبر، ولضعف القاعدة الجماهيرية للقوى العلمانية والديموقراطية صاحبة المصلحة الحقيقية بالتغيير، ولهيمنة المؤسستين الدينية والعشائرية على مزاج الناس، وغياب الوعي عند قطّاعات واسعة من ابناء شعبنا، يعتبر مفتاح استمرارها بالسلطة.

انتفاضة جماهيرية واسعة واكثر زخما من انتفاضة تشرين وبزعامة قيادات ميدانيّة واعية بضخامة المسؤولية التي تقع على عاتقها ونابعة من رحم المعاناة، ولجان تنسيق على مستوى الوطن على ان تكون قد وعت درس فشل انتفاضة تشرين في التغيير هي التي تحدد مصير شعبنا ووطننا، على ان لا تكون طقسا دينيا لتنطلق الى الشوارع والساحات كل يوم جمعة واقامة الصلوات فيهما. مثل هذه الحراك الجماهيري وحده الكفيل بإعادة السيادة والكرامة للعراق والاقليم، هذا عن سبل التغيير الداخلي. امّا العامل الاقليمي الذي سيغيّر اوضاع البلد فهو نجاح الشعوب الايرانية بإسقاط نظام طهران القمعي، اذ بإسقاطه سيتنفس شعبنا كما شعوب اخرى عديدة تعاني من تدّخلات النظام الايراني في شؤونها الداخلية، انسام الحرية. فهل سيحسم شعبنا وقواه الحيّة المعركة لصالحه داخليا من خلال حراك جماهيري واسع، ام ننتظر شعوبا اخرى تثور لتحرّرنا من براثن المحاصصة التي تقود بلادنا الى مستنقع الموت والدمار الذي وصلنا اليه، ولم يبق بالحقيقة الا غرقنا فيه.