الشعر في صحيحي البخاري ومسلم

الدكتور عبدالله محمد أبوداهش تناول في كتابه 'الشعر في صحيحي البخاري ومسلم' قضية نسبة قول الشعر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

يقول الحق تبارك وتعالى عن رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، في سورة يس: "وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ" (69). ويقول سبحانه وتعالى في سورة الصافات: "وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ" (36). ويقول عَزَّ من قائل في سورة الأنبياء: "بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ" (5)

بهذه الآيات، وغيرها، يتضح موقف القرآن الكريم من قضية نسبة قول الشعر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من ذلك فقد وردت في الأحاديث النبوية الشريفة بعض الأبيات أو الكلمات الشعرية التي نسبت إلى الرسول الكريم مثل:

        أنا النبيُّ لا كذب **       أنا ابنُ عبد المطلب

ولكن من الثابت غلبة الكسر العروضي على معظم أبيات الرجز الواردة في الأحاديث النبوية الشريفة على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد لا نجد هذه الظاهرة العروضية في بقية الشعر الذي ورد على ألسنة الصحابة رضوان الله عليهم.

وللوقوف على أبعاد هذا الموضوع في الصحيحين "صحيح البخاري وصحيح مسلم" على وجه التحديد، قام الدكتور عبدالله محمد أبوداهش ـ عضو هيئة التدريس بكلية اللغة العربية بـ"أبها" بالمملكة العربية السعودية ـ بوضع كتابه "الشعر في صحيحي البخاري ومسلم" وتدلنا مقدمة الكتاب - الذي جاء في 136 صفحة من القطع 17 × 24 سم - على تردد صاحبه في القيام بهذا العمل فيقول في ص 6: "ولقد ترددتُ كثيرا في العمل على تقويم هذا الشعر، والتعمق في دراسته دراسة نقدية جادة، حـيث أعلم أهمية هذا الجانب، وضرورته للدرس العلمي المنصف، ولكنني خشيت الزلل في هذا الميدان بما يفسد عليَّ التأصيل، ويضيع الهدف المنشود، فلقد كرهت الإسهاب في هذا الجانب، إذ نحن الآن بصدد التنويه بأهمية هذا الشعر، ولفت النظر إليه، وأن يكون بعد جـمعه، والإحاطة به متمثلا في مصدر علمي واحد، ولكي لا أفسد المنهج الذي وجَّه به: القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، لم أشأ تحليل هذا الشعر ولا تذوق نصوصه، فهو مشرق دون ذلك وإلا فالحق أن فيه نماذج مشرقة تستحق الدرس والتحليل، فهي بحق تبعث على التفاعل النقدي، وتُذكي الهمم بحسن سبكها، وسمو معانيها، بل تثير شعورًا صادقًا، وتضفي جوًّا ماتعًا، وصورًا مستديمة مشرقة، وذلك دعاني إلى الاختصار، وعدم التوسع في هذا الميدان".

احتوى الكتاب على الموضوعات الآتية: موقف القرآن الكريم من الشعر، وموقف السنة النبوية من الشعر، وقيمة هذا الشعر وأهميته، ثم حديث المؤلف عن عمله في جمع هذا الشعر، ثم القسمان الرئيسان في الكتاب، وهما: الشعر في صحيح البخاري، والشعر في صحيح مسلم، ثم قائمة المصادر والمراجع.

في موقف القرآن الكريم من الشعر يذكر المؤلف ـ نقلا عن طيبة البودي (الموقف النقدي من الشعر الإسلامي في عصر المخضرمين، مجلة عالم الفكر، مج 21، ع2 - 1991) ـ أن القرآن الكريم ذكر الشعر والشعراء في ستة مواضع، وبعد ذكر هذه المواضع، يوضح أن لفظ الشعـر ورد مرة واحدة في القرآن الكريم، ولفظ شاعر أربع مرات، ولفظ الشعراء مرة واحدة أيضا، ثم يضيف قائلا: "لقد اهتم المفسرون بتفسير هذه الألفاظ وإيضاح معانيها في سياق تلك الآيات الكريمات، مما يدعو إلى الوقوف عند تفسير واحد منهم وحسب، وليكن: تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى".

أما موقف السنة النبوية من الشعر، فقد أوضح المؤلف ـ نقلا عن عبدالرحمن رأفت الباشا "نحو مذهـب إسلامي في الأدب والنقد" ـ أن النبي صلَّى الله عليه وسلم، كان يأنس بالشعر، ويسأل الرواة عنه، وينصت إليه، ويستزيد منه، ويفرق ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ في ذلك بين جانبين من الشعر هما: الشعر الناصح المفيد، والشعر الطالح المذموم. ولئن اشتمل صحيحا: البخاري، ومسلم على نماذج شعرية موثقة، ليدلن ذلك على موقف الإسلام من الشعر، لذا فإن هذا الشعر حري بالاهتمام، وجدير بالجمع والدراسة.

وعن قيمة هذا الشعر، وأهميته، لاحظ المؤلف أن الشعر الوارد في الصحيحين لم يتجاوز البحور الآتية: الطويل، البسيط، الوافر، الكامل، الرجز، المتقارب. وأن بحر الرجز يعد من أكثرها ورودا. ومن ملاحظاته الذكية على هذا الشعر، أن الكسر العروضي غلب على معظم أبيات الرجز الواردة في هذين الصحيحين بما يشهد بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا ينبغي له أن يكون شاعرًا مصداقًا لقول الحق سبحانه وتعالى "وما علمناه الشعر وما ينبغي له" (من آية 69 سورة الشعراء) وقد لا نجد هذه الظاهرة العروضية في بقية الشعر الذي ورد على ألسنة الصحابة رضوان الله عليهم.

وبتخصيص صحيحي البخاري ومسلم بجمع هذا الشعر تبرز خصيصة مهمة قد جهلها معظم الدارسين ـ حسب رأي المؤلف ـ ولم يفيدوا منها، وهي حقيقة عظم منزلة هذين الصحيحين، وأنهما يعدان من المظان الحقيقية لمثل هذه الروايات، ويدلل على ذلك بشواهد كثيرة.

أما قيمة هذا الشعر الذي تم جمعه من صحيحي البخاري ومسلم، فتتجلَّى في جودة معظم معانيه، وقوة أسلوبه، فضلا عن أهميته التاريخية، وارتباطه بمرحلة مهمة من تاريخ المسلمين، ومن شواهد ذلك قول أبي طالب بن عبدالمطلب يمدح رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ويشير إلى بعض شمائله عليه السلام، وصفاته:

    وأبيض يُسْتَسقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ ** ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ  (صحيح البخاري 2/15)

أيضا من قيم هذا الشعر الوارد بالصحيحين أنه نقل لأبناء المسلمين عبر أجيالهم المتصلة السابقة بسالة نبيهم ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ وشجاعته، وما كان يتصف به أصحابه من الفداء والتضحية في سبيل الحق.

وعن منهجه في جمع هذا الشعر، يقول المؤلف والباحث د. عبدالله محمد أبوداهش، اعتمدت في جمعي لهذا الشعر على: صحيحي البخاري ومسلم في طبعتيهما الآتيتين: (1) صحيح البخاري، المكتبة الإسلامية، محمد أوزدمير، استانبول، تركيا، وهي طبعة موافقة لطبعة دار العامرة باستانبول سنة 1315هـ / 1897 (2) صحيح مسلم بشرح النووي، طبعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، بدون تاريخ. وفي سبيل تخريج هذا الشعر عمد الباحث إلى الإفادة من المصادر الموثقة، ذات القيمة العلمية، مثل الدواوين الشعرية، والمعاجم اللغوية، وغيرها.

أما طريقة جمع هذا الشعر وترتيبه، فقد أتى هذا عن طريق قراءة هذين الصحيحين قراءة متأنية دقيقة، حيث تم رصد هذا الشعر وتدوينه وفق وروده في تسلسل صفحات هذين الصحيحين، مع الحرص التام على الإشارة إلى رقم صفحات الروايات الأخرى في هذين المصدرين، مما يفضي إلى الاطمئنان.

ومن الأبيات الشعرية التي وردت في صحيح البخاري، ورصدها المؤلف، وعلَّق عليها:

        اللهُمَّ لا خيرَ إلا خيرُ الآخرة ** فاغفرْ للأنصارِ والمُهاجِرَةْ

يقول المؤلف في تعليقه بالحواشي: (الرجز مكسور في شطريه، وفي فتح الباري: "فاغفر للأنصار كذا للأكثر، وللمستملى والحموي: فاغفر الأنصار بحذف اللام، ويوجه بأنه ضمن اغـفر معنى استر. وقد رواه أبوداود عن مسدد بلفظ فانصر الأنصار" ابن حجر 1/526 ولم يحدد البخاري قائل هذا الرجز، انظر صحيحه 1/111).

ومن الأبيات الواردة في صحيح مسلم:

        نحنُ الذينَ بايعوا مُحمَّدَا ** على الإسلامِ ما بَقِينا أبَدَا

لاشك أن هذا العمل القيم الذي قام به الدكتور عبدالله أبوداهش، سيكون له مكانه الخاص في مكتبة الدراسات الشعرية، وأيضا الحديثية، غير أننا نود أن نشير في نهاية هذا العرض، إلى أن قائمة مراجع الكتاب ومصادره والتي اشتملت على ستة وعشرين مطبوعًا، وثلاث دوريات، لم تشر إلى إحدى المخطوطات المهمة في هذا المجال، وهي مخطوطة الجمَّاعيلي التـي تحدث فيها عن الشعر في الحديث النبوي وبخاصة في صحيحي البخاري ومسلم، بل إن مقدمة الكتاب لم تشر إلى مثل هذه المخطوطة التي كانت ستفيد البحث والباحث إفادة عظيمة لو اطلع عليها.