الشعوب الأوروبية تغامر بمنجزاتها التاريخية

البلدان الأوروبية وهي تجرّب حربا غير معروفة العواقب على أرضها من أجل توسيع حلف الناتو خدمة للمصالح الأميركية، لم تعِ معنى هذه الجملة: إنه الاقتصاد يا غبي.
أميركا ستخرج من الحرب "منتصرة" وهي تبيع أسلحتها الفتاكة للشعوب الأوروبية
أوروبا بدأت تخسر الكثير من أمنها ورفاهها اللذين ناضلت من أجلهما سبعة عقود

"إنه الاقتصاد يا غبي"، جملة صاغها الكاتب والخبير الإستراتيجي جيمس كارفيل لحملة بيل كلينتون عام 1992، وقالها الرئيس الأميركي الأسبق وهو يخوض وقتها غمار حملته الانتخابية التي أوصلته الى البيت الأبيض بعد فشل جورج بوش الأب في معالجة المشاكل الاقتصادية في أميركا، لأنّ الاقتصاد القوي في الدول الديموقراطية يعني في وجهه الآخر علاوة على أمور كثيرة تحقيق نظام عدالة اجتماعية متين وقوي. هذه الجملة كافية في أن تعي الشعوب الأوروبية خطر زوال أو انحسار ما حققته خلال عقود من نضالاتها في سبيل تحقيق ما حققته لليوم من مستوى معاشي لائق ونظام عدالة اجتماعية عادل لحدود كبيرة خصوصا في البلدان الأسكندنافية، هذه البلدان التي حققت بالفعل مجتمعات الرفاهية لشعوبها.

لقد عانت اوروبا في العام 2009 من أزمة اقتصادية القت بظلالها على النمو الاقتصادي لبلدان القارّة، واحتاجت لفترة غير قصيرة للعودة الى معدلات نمو ما قبل الأزمة، وكانت اكبر التحديات التي تواجه معدلات نمو الاقتصاد الأوروبي ومنه الاقتصادات الكبرى فيها، هي توفير الطاقة الرخيصة والمستدامة التي تعمل على كبح جماح التضخم وارتفاع الاسعار والبطالة، والتي تساهم مساهمة فاعلة في استمرار انظمة الرعاية الاجتماعية وتطورّها وديمومتها كنتيجة لها. وما أن تعافى الاقتصاد العالمي ومنه الأوروبي، حتى ظهرت جائحة كورونا لتوجّه لطمة قويّة للاقتصاد العالمي الذي بدأ يلتقط قليلا من أنفاسه حينها.

جاء في تقرير لصندوق النقد الدولي تحت عنوان (إصابات متزايدة بالفيروس وتعاف معطَّل وتضخم مرتفع) نُشر في كانون ثاني 2022، أي قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا بشهرين تقريبا. في أنّ "الاقتصاد العالمي يستهل عام 2022، وهو في وضع أضعف مما ورد في التوقعات السابقة. فمع انتشار سلالة "أوميكرون" الجديدة المتحورة من فيروس كوفيد-19، عادت البلدان إلى فرض قيود على الحركة. وأدى تصاعد أسعار الطاقة والانقطاعات في سلاسل الإمداد إلى ارتفاع التضخم واتساع نطاقه عن المستويات المنتظرة، ولا سيما في الولايات المتحدة وكثير من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. وباتت آفاق النمو محدودة أيضا في الصين من جراء الانكماش الجاري في قطاع العقارات وبطء تعافي الاستهلاك الخاص مقارنة بالتوقعات". 
ويستمر التقرير في نظرته التشاؤمية ليقول "ومن المتوقع أن يستمر التضخم المرتفع لفترة أطول من المتصور في عدد أكتوبر من تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، مع استمرار الانقطاعات في سلاسل الإمداد وكذلك أسعار الطاقة المرتفعة في عام 2022". "وبافتراض بقاء توقعات التضخم على مستوى جيد من الثبات حول الركيزة المستهدفة، فمن المتوقع أن ينخفض معدله تدريجيا مع انحسار الاختلالات بين العرض والطلب في عام 2022 واستجابة السياسة النقدية في الاقتصادات الكبرى". ويضيف التقرير من أنّ "انقطاعات سلاسل الإمداد، وتقلب أسعار الطاقة، وتركز ضغوط الأجور في أماكن معينة، كلها يعني ارتفاع عدم اليقين بشأن التضخم ومسارات السياسات"، وقد أشار التقرير كذلك أنّ رفع أسعار الفائدة في الاقتصادات المتقدمة كأميركا ستسبب مخاطر على الاستقرار المالي في الاقتصادات النامية والعملات. وقد تتحقق "مخاطر عالمية أخرى في ظل استمرار التوترات الجغرافية - السياسية على ارتفاعها، كما أن الطوارئ المناخية الراهنة تعني أن احتمالات حدوث الكوارث الطبيعية الكبرى لا تزال مرتفعة"!!
كيف سيكون شكل تقرير صندوق النقد الدولي القادم، ومتحورّات كورونا مستمرة في جنوب أفريقيا والتي وصلت الى العديد من البلدان الأوروبية، مع استمرار غلق المدن في الصين نتيجة فشلها في تصفير الإصابات؟ وما هي نسب المخاطر على الاقتصاد العالمي وأميركا ترفع نسبة الفائدة نصف نقطة لليوم، وما هي المخاطر الحقيقية في انهيار الاستقرار المالي للبلدان النامية والفقيرة، في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانيّة وتأثيراتها الكبيرة على سوق الطاقة والغذاء والسلم العالمي، واستمرار الجفاف ككارثة طبيعية محتملة وتأثيرها على الزراعة في ظل شحّة المياة؟
اندلعت الحرب العالميّة الأولى في أوروبا لأسباب عدّة منها التنافس بين الدول الاستعمارية على اسواق جديدة لتصريف بضائعها، والبحث عن مواد خام رخيصة لاستمرار عجلة صناعاتها، وهذا يعني أنّ الاقتصاد هو المحرّك الرئيسي لاندلاع الحرب والتي راح ضحيتها ما يقارب الـ17 مليون قتيل وملايين الجرحى وخراب كبير طال المدن الأوروبية وبناها التحتية. واندلعت الحرب العالمية الثانية هي الأخرى لأسباب عديدة ومنها الكساد والأزمة الأقتصادية العالمية، والتي راح ضحيتها ما يقارب السبعين مليون انسان ودمار فاق دمار الحرب الأولى لتطور الأسلحة المستخدمة خلالها، وهذا يعني من جديد، أنّ الاقتصاد هو محرّك آلة الحرب العالمية الثانيّة.
الدولة الكبرى الوحيدة التي خرجت منتصرة وذات اقتصاد قوي مع محافظتها على بناها التحتية، هي أميركا. أمّا أوروبا التي كانت مسرحا مباشرا للحربين، فقد خسرت الكثير فيهما واحتاجت لعقود كي تعيد تنظيم اقتصاداتها التي أنهارت أثناء الحربين. وهنا تكون مقولة كلينتون "إنه الاقتصاد يا غبي" سابقة لساعة قولها ولا زالت، لأنّ البلدان الأوروبية وهي تجرّب حربا غير معروفة العواقب على أرضها من أجل توسيع حلف الناتو خدمة للمصالح الأميركية لم تعِ معنى هذه الجملة وتداعياتها على ما يبدو.
فالشعوب الأوروبية وهي تعيش لحظات تاريخية دقيقة للغاية، بدأت تخسر الكثير من أمنها ورفاهها اللذين ناضلت من أجلهما طيلة سبعة عقود على الأقل أي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لليوم. ومستقبل الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي معرّض لخطر كبير في حالة استمرار الحرب، وعدم الوصول الى وقف القتال عن طريق الديبلوماسية مع أخذ مصالح جميع الدول بما فيها اوكرانيا وروسيا بنظر الأعتبار.

في الأوّل من أيار الجاري، تناولت رئيسة  وزراء الدنمارك السيدة ميتا فريذريكسون في كلمتها بمناسبة الأول من آيار في مقر حزبها وبحضور جمهور من أعضاء حزبها -الحزب الأشتراكي الديموقراطي- الحرب الروسية الأوكرانية وآثارها وقالت: انّ الدنمارك حققت خلال العام 2021 أقل نسبة بطالة خلال 27 عاما، وأدنى نسبة دين عام، لكنّ الحرب في أوروبا لها ثمن غال، علينا أن ننتظر وللأسف الشديد ازدياد نسبة الفائدة وارتفاع نسبة البطالة. وأعطت بعض الوعود والتطمينات للفئات الاجتماعية الأكثر عرضة لتقلبات الأوضاع الاقتصادية كالمتقاعدين وذوي الدخل المحدود والطلبة والعاطلين عن العمل في مساعدتهم عبر حزمات مالية، على أن تكون مؤقتة وضمن أطر معينة. لو كان مجتمع الرفاهية الدنماركي مهدد بالشكل الذي أشارت اليه السيدة ميتا فريذريكسون بهذه السوداوية، فكيف سيكون حال المجتمعات الأوروبية الفقيرة مقارنة بالدنمارك الغنية، كالبرتغال واسبانيا واليونان وبلدان أوروبا الشرقية، وكيف ستكون حياة الناس في افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية الأكثر فقرا.
في هذه الحرب ستخرج أميركا وهي بعيدة عن مسرحها كما كانت دوما "منتصرة" وهي تبيع أسلحتها الفتاكة للشعوب الأوروبية التي زادت من إنفاقها العسكري، ولتحتكر إمدادات الطاقة لأوروبا بنسب مؤثرة. وبدلا من محاولات الدول الأوروبية كي لا تخرج خاسرة من هذه الحرب كما اللواتي سبقتها، من خلال ايجاد حلول لأصل المشكلة التي تهدد أمن قارّتهم بشكل مباشر، وأولّها ألتزامها بوعودها في عدم توسع الناتو شرقا أكثر ممّا هو عليه الآن، وضمان عدم قبول اوكرانيا في حلف الناتو كبداية لإنهاء الحرب والأزمة. نراها تتحرك تبعا لسياسات الولايات المتحدة وبريطانيا في توسيع رقعة الحرب التي تهدد كل ما حققته شعوبها خلال عقود من خلال زيادة الإنفاق العسكري وارتفاع نسب البطالة وقضم تدريجي لما حققّته من إنجازات على صعيد العدالة الاجتماعية ومجتمعات الرفاهيّة، هذه الحرب التي لا تهدد أوروبا وحدها بل تمتد لتهدد السلم العالمي والجنس البشري بشكل عام.
الملفت للنظر هو غياب اليسار ومنظمات المجتمع المدني والرأي العام الجماهيري الأوروبي عن دورهم في التظاهر والتجمّع للضغط من أجل وقف الحرب التي تجري في عقر دارهم، هذا اليسار الذي لعب دورا بارزا في دعمه للسلام العالمي ومناهضة الحروب في كل أرجاء المعمورة. فهل وصل الشحن الإعلامي لاستمرار الحرب تحت أية حجج كانت الى تغييب القوى الخيّرة والمحبّة للسلام ونبذ الحروب كوسيلة لفضّ النزاعات عن ساحتها!؟

"لا بوصة واحدة شرقا"، جيمس بيكر مخاطبا غورباتشوف حول عدم توسع الناتو شرقا.