الصحافة الورقية.. الى مثواها الأخير

الدعاية والتضليل والأخبار المفبركة والتكنولوجيا أطاحت بالصحافة الورقية عن عرشها.

لم يعد العالم كله مهتما بالصحافة الورقية، بعد إن غزت الصحافة الإلكترونية والفضائيات والموبايلات عالمنا الجديد. وفي العراق انتهت الصحافة الورقية الى مصير لا يحسد عليه، حتى أن القائمين عليها ودعوا نعشها الى مثواها الأخير.

لم تعد للصحافة أخلاقيات ولا مدارس أو نظريات تلتزم بها، كما أن تطور الحريات الصحفية والأنظمة الليبرالية ونظرياتها في الفوضى الخلاقة، هو ما أسهم بتفكك تلك المهنة، وهو ما عرضها لمخاطر الاندثار.

والصحافة عموما، والورقية على وجه الخصوص، لم تعد تجد قراءها ومن يبحثون عنها، الا ما ندر، بل لم تعد الصحافة السلطة الرابعة ولا الخامسة ولا حتى العاشرة. ولا ندري ماذا ستفعله الأقدار بتلك المهنة العريقة، التي بقيت لعقود تحافظ على سمعتها ومكانتها، وكانت مثل الشموع التي تضيء دروب الظلام للبشرية، لكي تهتدي من خلالها الى الطريق الصحيح، الذي ينير عالمهم الى حيث الكلمة الحرة المسؤولة الواعية الملتزمة المتزنة، والحيادية المهنية، كما هي سمات الصحافة التي تعارفنا عليها.

وإحدى الانتكاسات التي مر بها الإعلام عموما هو إنغماسه في مهاوي الدعاية والتضليل وعمليات إختلاق الاخبار والفبركة، وتناسى مهمته في أنه واحة للمصداقية والكلمة الواعية المسؤولة. غزت حملات الدعاية عالمنا، ولم يعد من مهام الإعلام تقديم المعلومة، وأغرق نفسه في متاهات الإختلاق والفبركة، مما ادى الى ضياع المصداقية في الكثير مما يتناوله من أخبار وتقارير صحفية وتحقيقات وأشكال وفنون الصحافة التي تعارفنا عليها، وهو ما أفقد الصحافة بريقها الذي كانت تتسم به لسنوات طوال.

كانت الصحافة تسمى مهنة المتاعب. الصحفي كان يلهث وراء المعلومة والخبر والتقرير الصحفي، عله يكون بمقدوره تغطية النشاط الصحفي الذي يرغب القارئ والمتتبع ورئيس التحرير وادارة الصحيفة العليا، للإطلاع عليه، صباح كل يوم، بعد أن يعد عجينته بنفسه ويستخرج منها، رغيف خبز طيب المذاق، أو مشعل نور يضيء سماء الدنيا، أو يريح بالنا، ويغذي قرائح الكثيرين ممن هم مولعون بـ "صاحبة الجلالة". وكانت الصحافة الورقية تسمى "قهوة الصباح"، وهي من تشبع نهم الكثيرين للإطلاع على مجريات بلدهم وكل مايدور في هذا العالم وتطور حركة الوعي والثقافة، إضافة الى مهمة المتعة والتسلية التي تمتاز بها الصحافة عموما.

والصحافة هي انعكاس لواقع حال الأنظمة والمجتمعات ومنظومات القيم، وحين تدهورت كل تلك المفاهيم في عالم اليوم، فإن العدوى إنتقلت الى الصحافة، وهي الآن تئن من خراب الديار، مثلما خربت الأوطان وساد الفساد والفوضى أغلب مجتمعاتنا، ولم تعد للقيم ولا للمباديء ولا للأخلاقيات من وجود، إلا ما ندر.

كان الكثيرون يرعبون العالم بالحديث عن أن العالم سيتحول الى قرية ويكون بمقدور أي بلد أن يتواصل مع مواطني البلدان الأخرى، ولم تعد هناك حدود للأوطان والدول. ويا ليت لو تحولنا الى قرية لكنا قد حفظنا لبعض القيم هيبتها، ولبقيت وشائج من العلاقات بين بني البشر، بعد إن وصل الأمر الى حد أن الجار لم يعد يعرف جاره، ولم يعد حتى بمقدور العوائل التواصل مع أبنائهم وأقربائهم والمقربين منهم، الا في حالات نادرة، وراح كل منهم يغني على ليلاه.. بالرغم من أن ليلى العامرية لم تعد تلك الحبيبة التي تغنى بها قيس الملوح، ويتعذب من أجلها، ويتمنى لو تتاح له سويعات للقاء بها، ولم تعد قصص الحب تروى كما كانت قصص الأقدمين، بعد إن تحول الحب علنا وعلى صفحات الفيسبوك، والتعارف يكون للحظات، تتحول بعدها الى صداقات، وربما بعد أيام يكتشف كل منهم الحقيقة وتتحول العلاقة الى حروب، يوجه كل منهم الاتهامات للآخر، بأنه يمتلك أكثر من عشر صديقات وأحبة، ولا يدري أي منهم من يضحك على الآخر.

وكثيرون من صحفيي الزمن المخضرم من راح يبكي على الأطلال وعلى أيامهم الخوالي، يوم كانوا صحفيين لامعين، ولهم مكانة ولهم دور وتحترمهم الدولة والشعب، كونهم كانوا سلطتها الرابعة. أما في العراق الآن، فلم تعد للصحافة من مكانة، وربما عدت الآن السلطة العاشرة، بعد إن تباعدت العلاقة بين الصحافة والحكومة والناس عموما، بسبب غزو وسائل التواصل الاجتماعي والانترنت، وأصبحت هي البديل عن الصحافة، بعد ان راح كل من هب ودب يدخل ميدانها ويؤسس له موقعا او صحيفة الكترونية، أو فضائية. وجاءت صحافة الأحزاب وفضائياتهم وهي بالعشرات، وكذلك الفيس بوك، والإهمال الحكومي المتعمد للصحفيين عموما وللصحافة، وعدم إهتمامها بأحوال الصحفيين، يضاف لهذه المأساة ظهور عشرات المنظمات التي تدعي تمثيل الصحافة أو الدفاع عنها، لتقضي كلها، على أي أمل بأن تكون هناك صحافة محترمة. وذهب مصير الصحافة الورقية خصوصا والصحافة عموما، في خبر كان، حتى ودعنا "صاحبة الجلالة" الى مثواها الأخير، بعد إن أفل نجمها، ولم تعد "قهوة الصباح" أو سلطتها الرابعة كما كانت قبل عقدين أو أكثر من الزمان.

لكن زيد الحلي أستاذ الصحافة المخضرم، الذي عملت معه لسنوات، لا يزال يبشرنا بمستقبل واعد للصحافة الورقية. ويستذكر الحلي في هذا الصدد مقال الكاتب كرم نعمة، قبل أيام، بصحيفة العرب، بأن صحيفة الفايننشيال تايمز البريطانية ما تزال تفخر بأن عدد المشتركين فيها وصل الى المليون، وهي من صحف النخبة العريقة، ما يعني إن بالإمكان أن نجد صحافة ورقية متميزة، رغم أنف الزمان.