الضمانات المطلوبة لإجراء الانتخابات الليبية

يبدو التعجيل بالانتخابات كأنه يقود إلى الإيحاء بالاستقرار. هذه نظرة غير العارفين بطبيعة الأوضاع في ليبيا.

الحماس الذي تبديه جهات إقليمية ودولية لإجراء الانتخابات في ليبيا قبل نهاية العام، يبدو في ظاهره حالة إيجابية ترمي إلى إنهاء فترة قاتمة من التوترات والصراعات الدامية. لكنه في جوهره حالة سلبية يمكن أن تضاعف المشكلات.

لم تكن هذه الرغبة موجودة بالدرجة ذاتها قبل بضعة أشهر. الاهتمام المفاجئ الذي تظهره بعض القوى بالانتخابات وحرق مراحل، وتعديل اتفاق الصخيرات، واقرار الدستور، وعقد مؤتمر جامع للوفاق الوطني، هو دليل ضعف وليس قوة.

العجز يؤدي إلى الهروب والمراوغة في الوفاء بالاستحقاقات اللازمة. الشجاعة تقتضي الوفاء بخطة الأمم المتحدة على الأرض. تنفيذ ما جرى الاتفاق عليه في المؤتمرات التي عقدت في الدول المعنية بالتسوية في ليبيا.  

الدفع باتجاه الانتخابات في أي بلد يستلزم تهيئة البيئة السياسية والأمنية. جعل الأجواء مواتية لتقبل ما يترتب عنها. التجهيز جيدا لعملية مضنية كي تكون النتائج معبرة عن الواقع بكل تشابكاته. منع من يمتلك زمام القوة من فرض النفوذ عنوة. وقف الخلل الحاصل في التوازنات جراء دعم دول لهذا الجناح بالسلاح، وفرض حصار على ذاك.

في ليبيا وضع نادر من الخلل الجسيم. ميلشيات تتقاتل لتحقيق المكاسب. جيش يحاول لملمة المؤسسة العسكرية التي تم تخريبها عمدا. قوى سياسية تجري وراء أهدافها الآنية. قبائل لا تزال تقبض على زمام أمور كثيرة. أقاليم تحلم بالانفصال لعدم قدرتها على الاندماج. دول خارجية تتدخل وتنتهك سيادة البلاد بذريعة الحفاظ على مصالحها.

فوق كل ذلك هناك حكومة لا تحظى بإجماع وطني. حكومة لا تسيطر على مؤسسات الدولة التي اختطفتها الميلشيات المتطرفة، وتضطر للتنسيق والتعاون معها للإيحاء بأنها صاحبة قرار وقوة ونفوذ. الجيش الوطني الليبي الذي يوشك أن يسيطر على درنة ويستعد لدخول طرابلس، يريدون الشوشرة عليه وارباكه بورقة إجراء انتخابات معلبة.

لم تقدم حتى الآن الدوائر الداعمة لها إجابات شافية عن الهيئة التي تستطيع الإشراف عليها واتمامها بصورة إيجابية. الخطوات التي تضمن خروجها بطريقة سليمة تكاد تكون منعدمة. الجهة أو الجهات المسئولة عن تنفيذ ما ستسفر عنه غير معلومة. مصير الجماعات التي تحمل الأسلحة في وضح النهار لا يزال مجهولا.

أسئلة كبيرة، تتعمد الدول التي تدفع بالاتجاه نحو الانتخابات بلا ضمانات، غض الطرف عنها، لأن الوقوف عندها بإمعان يضعها في موقف حرج. يجبرها على الوضوح وعدم الخداع. بذل جهود محددة في سبيل التسوية السياسية، وليس القفز على جهود دول أخرى تعلم التفاصيل والخبايا الدقيقة للأزمة.

المؤتمر الذي عقد في باريس وحضره ممثلون من 19 دولة، الثلاثاء الماضي، سعت فرنسا من خلاله ليكون نواة لتدشين دور جديد يتخطى أدوار دول مهمة ساهمت في تقريب المسافات بين القوى الليبية وتهيئة الأجواء السليمة للوصول إلى مربع الانتخابات، بما لا يعيد تكرار الأخطاء التي وقعت في المرتين الماضيتين.

المبادرة الفرنسية، استعجلت جني الثمار السياسية والاقتصادية، وبدا من أطلقوها يريدون التكفير عن جريمة ارتكبت عام 2011، بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي، أو طي صفحة قاتمة، حتى لو كانت الصفحات التالية سوف تصبح أشد سوادا. المهم يبدو التعجيل بالانتخابات كأنه يقود إلى الإيحاء بالاستقرار.

هذه نظرة غير العارفين بطبيعة الأوضاع في ليبيا. من يريدون الترويج أنهم مع الأمن في هذا العالم، ليداروا حماقات سابقة وحالية، ووضع غطاء أخلاقي فوق ما ارتكبوه من تجاوزات وأخطاء بالجملة في ليبيا وغيرها.

الأزمة في ليبيا، يصعب مقارنتها بأزمات أخرى في المنطقة. هي من النوع السهل الممتنع. يمكن التوصل إلى تسوية سياسية لها من خلال معرفة مفاصل الحل والعقد. عبر الاقتراب من التروس الرئيسية والفرعية فيها. يمكن لمن يعتبرهم البعض ترسا هامشيا يؤثر على النتيجة النهائية.

الخصوصية التي تتمتع بها ليبيا عملة نادرة. يحتاج من يتعاملون مع الأزمة مقاربات واقعية وليس تقديرات انطباعية يتم عليها بناء قرارات مصيرية، مثل إجراء الانتخابات.

الحديث الفرنسي سبقه إعلان غسان سلامة المبعوث الأممي إلى ليبيا (فرنسي الجنسية)، بخطوة أمام مجلس الأمن الدولي حول ضرورة إجراء الانتخابات قبل نهاية العام الجاري، بصرف النظر عن تطبيق الخطة الدولية كاملة.

تحول الانتخابات إلى هدف في حد ذاته، مخاطرة كبيرة ينجم عنها تخريب ما تم من إجراءات خلال الفترة الماضية. تثبيت الواقع الجديد سيكون مرهونا بقوة الميلشيات التي ترى في الانتخابات خصما من مكاسبها التي تحققت في ظل غياب مؤسسات الدولة. لذلك من مصلحتها أن تتم بدون استعدادات لضمان فشلها أو وضع العراقيل في طريق اتمامها.

في الحالتين الحصيلة واحدة. اعادة إنتاج المؤتمر الوطني الذي سيطر على المشهد الليبي حتى 2014، وما صاحبه من نفوذ للإخوان والمليشيات والجماعة الليبية المقاتلة والمتطرفين بمشاربهم المختلفة، وهو ما يجلب اخفاقا فرنسيا جديدا.

المشكلة أن باريس تعتبر التأييد الظاهر من قبل دول عدة اقتناعا بمبادرتها، بينما في الحقيقة جزء منه رغبة في عدم الغياب، واثبات حضور يجهض محاولات قوى تريد الاستئثار بالقرار. الأمر الذي يفسر اجتماع قوى متناقضة ومتصارعة في باريس أخيرا.

يخطئ من يعتقدون أن تجميع الأطياف المتباينة في قاعة واحدة يمثل دعما لتوجهاتهم. فكم من مبادرات طرحت؟ وكم من اجتماعات عقدت؟ وكم من اتفاقيات وقعت؟ وكم من إعلانات مبادئ حظيت باهتمام؟ ولم تساو نتائجها ما تم الترويج له. سقف التطلعات المرتفع عندما يصطدم بالواقع يكون كفيلا بتسرب الإحباط لأصحابه.

الخوف يكمن الآن في أن تعيد تحركات بعض القوي الأزمة إلى نقطة الصفر. تتداخل الأوراق وتتشابك الحسابات وتفترق السبل التي تم تجميعها مؤخرا، وتجد الميلشيات فرصتها في زيادة نفوذها وتوسيع أماكن تموضعها.

الخطورة أن بعض القوى المؤثرة في ليبيا، إذا لم تستطع تحقيق أهدافها بإمكانها منع الآخرين من تحقيق أهدافهم. حل جزء كبير من الأزمة يأتي من جانب الجهات العارفة بخريطة ليبيا المعقدة. لذلك توفير الضمانات هو المدخل السليم لإجراء الانتخابات، قبل أن يُفتح الباب لاستدعاء خيار التقسيم.